لقد أضعنا كلّ مقوِّمات القوة ولم نستطع بناء دولةٍ تليق بكرامة المواطن اللبناني والإنسان! ولبنان صار بلدًا ضعيفًا جدًّا. وهو أمام خطر التحلُّل الفعلي للكيان اللبنانيّ برمّته! نأمل أن يعي اللبنانيّون خطورة الأوضاع كما نأمل أن يُعطى الشباب فرصةً للنهوض بلبنان وانتشاله من القاع المظلم الذي وقع فيه.
 

ضاقت الخيارات أمام اللبنانيّين بعد أن تبخّرت أموالهم أو بالأحرى سُرِقت! فالقطاع المصرفيّ الذي كان درّة الاقتصاد اللبنانيّ تبيّن أنّه قطاعٌ واهٍ وفاسدٌ بامتيازٍ بعدما تصرّف بخفّةٍ واحتيالٍ بأموال المودعين. والقطاع الذي كان يحوز على ٢٥٢ مليارًا في يومٍ من الأيّام صارت خزائنه فارغةً إلّا من الليرة اللبنانيّة التي تفقد قيمتها يومًا بعد يوم، وإلّا ممّا يزيد بقليلٍ عن الاحتياط الإلزاميّ في خزائن مصرف لبنان.

 


منذ سنةٍ تقريبًا نزل الشّعب اللبنانيّ في غالبيّته إلى الشّارع يطالب بمحاكمة الطبقة السياسيّة الفاسدة التي أكلت الأخضر واليابس ولم تبقِ شيئًا لهذا الشعب المسكين! لم يكن هذا الشعب يصدِّق أنّ أمواله قد تبخّرت بالفساد والسرقة والإنفاق الحكوميّ العبثيّ! ما حصل لم يخطر على باله وأصلًا لم يخطر في عقل شيطان! أن تتبخّر أموال المودعين حتى الدولاريّة منها أمرٌ لم يكن أحدٌ مستعدًّا لتصديقه! يا للأسف! هذا ما حصل وبات اللبنانيّون على أبواب مجاعةٍ كبرى، بل في قلبها!

 


بعد الثورة تشكّلت حكومة حسّان دياب العاجزة والتي تفنّنت في إضاعة سبعة أشهرٍ من الوقت الثمين المتبقّي وراح حاكم مصرف لبنان يمارس هواياته الانتحاريّة بعدما تبيّن أنّ الليرة ليست بخيرٍ كما كان يروّج لعقود. وتبيّن أنّ الفجوة الماليّة الدولاريّة التي يتخبّط فيها مصرف لبنان أكبر بكثيرٍ من ديون الدولة بالعملات الأجنبيّة، فهي لا تقلّ عن خمسين مليارَ دولارٍ في أحسن التحليلات تفاؤلًا. وممّا زاد الطين بلّةً هو موافقة حاكم مصرف لبنان ورضوخه، خوفًا من الإقالة، أمام حكومة حسّان دياب التي طالبته بمزيدٍ من الدعم للمواد الأساسيّة، فزادت وتيرة استنزاف الاحتياطيّ النّقدي المتبقي الذي لا يزيد الآن عن ملياري دولارٍ! يُضاف إليهما الاحتياطي الإلزاميّ الذي يُقدّر ب١٧.٥ مليارًا! إذًا بعد ثلاثة أشهرٍ على الأكثر في حال استمرّ الدعم على ما هو عليه، لا يبقى من أموال اللبنانيّين سوى سبعة عشر مليارًا ونصف المليار فقد هرّب أصحاب البنوك ومجالس الإدارة أموالهم الخاصة ورؤوس أموال المصارف وأرباحهم وقيمة مكاتبهم إلى الخارج أثناء الإقفال الذي تلى ثورة تشرين.

 


لذا يردّد حاكم مصرف لبنان منذ مدّةٍ قصيرةٍ أنّ ما لديه من دولاراتٍ شارف على النّفاد وأنّه لا ينوي استعمال الاحتياطيّ الإلزاميّ لمتابعة دعم المحروقات والطحين والدواء وسلّة المواد الغذائيّة التي اتُّفِق عليها مع وزارة الاقتصاد. هذا يعني غلاءً فاحشًا في أسعار الدولار والمواد الأساسيّة وغير الأساسيّة. وهذا يعني مزيدًا من الفقر والمجاعة.

 


حصل انفجار المرفأ في الرّابع من آب الماضي. تعاطفت الدول إنسانيًّا مع الشعب اللبناني. وقام الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارتيْه التّاريخيّتين إلى لبنان فارِضًا مصطفى أديب رئيسًا مكلّفًا للحكومة العتيدة. لكنّ تأليف الحكومة ما زال يترنّح تحت وطأة شروط الثنائي الشيعي. في رأيي، ليس الوقت ملائمًا للحديث عن الميثاقيّة وطائفة وزير المال! فالسفينة تغرق بركابها وتتجه مسرعةً نحو قاع المحيط. بناءً عليه، علينا تلقُّف المبادرة الفرنسيّة، بل وإبداء كافة التسهيلات أمامها؛ لأنّها قد تكون الفرصة الأخيرة المتاحة. 


إنّ توسيع الطائفيّة باتجاه المقاعد الوزاريّة بدلًا من تجاوزها لهو مصيبةٌ كبرى ستقضي على ما تبقّى من هذا الوطن المعذّب!


بناءً على ما سبق، وبناءً على ما يصدر من بياناتٍ سلبيّةٍ في المجالات الاقتصاديّة والماليّة والنّقديّة كافّةً، وبما أنّ مصرف لبنان بات عاجزًا كلّيًّا عن التدخل في سوق القطع رغم صغر حجم هذا السوق، بل وهو يتجه فعليًّا نحو رفعٍ مرحليٍّ وجزئيٍّ للدعم على المواد الأساسيّة، فهذا يعني أنّنا نتجه بسرعةٍ إلى قاع المحيط المظلم والبارد جدًّا!


وهذا يعني أيضًا أنّ المواد الأساسيّة لن تعود في متناول الجميع! وهذا يعني كذلك مزيدًا من الاضطرابات المجتمعيّة والحوادث الأمنيّة المتنقِّلة، بل ومزيدًا من الحرمان والجوع! وهذا يشكِّل باختصارٍ، انتحارًا جماعيًّا قد لا ينجو منه أحد! لذا علينا القبول بالمبادرة الفرنسيّة التي تعني ببساطةٍ انتدابًا جديدًا ملطَّفًا وإنْ كان عهد الاستعمار والانتداب بشكله القديم قد ولّى إلى غير رجعة!


لن نرى قواتٍ فرنسيّةً تحتل لبنان وتفرض إرادتها عبر المندوب السامي الفرنسي ولن نرى تدخُّلًا فرنسيًّا فجًّا في الشأن اللبناني، بل سنرى تدخّلًا فرنسيًّا ناعِمًا حتى بين المرء وزوجته! سنحِسُّ بتدخّلاتٍ غير مرئيّة في كافّة المجالات وسيفقد لبنان سيادته الماليّة وغير الماليّة بعد مائة عامٍ من ولادة ونشوء لينان الكبير! ولسوء الحظ لم تعد فرنسا التي أنشأت لبنان الكبير دولةً عظمى حتى تستطيع أن تفرض شروطها الماليّة والسياسيّة!


أيُّها اللبنانيّون استعدّوا للأسوأ! وأعتقد أنّ ما جرى ويجري في العام ٢٠٢٠ سيكون بمثابة نزهةٍ بالنسبة إلى ما يجري في العام ٢٠٢١! 


لقد أضعنا كلّ مقوِّمات القوة ولم نستطع بناء دولةٍ تليق بكرامة المواطن اللبناني والإنسان! ولبنان صار بلدًا ضعيفًا جدًّا. وهو أمام خطر التحلُّل الفعلي للكيان اللبنانيّ برمّته!


نأمل أن يعي اللبنانيّون خطورة الأوضاع كما نأمل أن يُعطى الشباب فرصةً للنهوض بلبنان وانتشاله من القاع المظلم الذي وقع فيه.