على رغم من الخلافات المستحكمة بتشكيل «حكومة المهمة» لا يمكن تجاهل حقيقة واحدة تتجسّد في اعتبار المبادرة الفرنسية من «آخر المكابح التي تحول دون انهيار لبنان»، وانّ من بعدها تفتح «الطريق الى جهنم». وهي نظرية حظيت بإجماع كبير خرقه إصرار «الثنائي الشيعي» على حقيبة وزارة المال وتسمية وزرائه. وهو ما قاد الى سلسلة من السيناريوهات جعلت البلد مصلوباً ومعلّقاً بين «الحياة والموت». فإلى أي حد تصحّ هذه المعادلة؟

 

 

 

 

غَالى بعض اللبنانيين في حرصهم على إنجاح المبادرة الفرنسية ووضعوا قدراتهم في تصرّف الرئيس الفرنسي ايمانول ماكرون، وأمطروه بالتعهدات والوعود بتشكيل «حكومة مهمة» تكلف اجراء مقاربة بسيطة لمجموعة القضايا المعقدة التي لم تنجح «حكومة التحديات» التي ولدت من لون واحد في مقاربة أي منها. وهو ما أرخى بظلاله أملاً بعدم تكرار الاخطاء التي ارتكبتها الحكومة السابقة التي ادّعت تمثيل الانتفاضة وعملت عكساً. فتصرفاتها زادت من غضب ناشطيها الى الذروة قبل ان يقضي انفجار المرفأ في 4 آب والنكبة التي تسبّب بها على آخر أمل لها بإمكان فك ايّ من العقد المُستعصية التي استجرّتها السياسات التي وضعت لبنان في المحور المعادي لكل أصدقائه العرب والغربيين، عدا عن الازمات الديبلوماسية القاتلة وكان أخطرها مع باريس إبّان زيارة وزير خارجيتها جان ايف لودريان.

 

ليس صحيحاً القول انّ حكومة حسان دياب هي التي تتحمل وحيدة مسؤولية ما آل اليه الوضع، وان أخفقت في استباق كارثة المرفأ والعمل بما اقترح من مخارج لـ»عنبر الموت» وإهمال مضمون التقارير التي وصفت محتواه على المستوى الحكومي والامني والقضائي. وهي عن حق لم تكن العائق الوحيد امام تحقيق أي إنجاز كان مطلوباً منها على رغم من اعتقاد رئيسها أنه أنجز 93 % ممّا نَوى القيام به، فيما هو لم يقلّع في اي ملف ولم يجد حلاً لأيّ أزمة. لا بل فقد فاقَمت أخطاؤها النكبات ورفعت العوائق امام كثير من الحلول الممكنة وصولاً الى تجرؤ رئيسها على الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة عندما بدأ مسلسل تبادل الاتهامات بين من هَندسها وسمّى وزراءها في شكل مغفل، فدفع الثمن غالياً باستقالته بأمر مهمة في ايام قليلة.


 
 

وإن كان دياب الحلقة الأضعف في ثلاثية تركيبة الحكم، فإنّ الباقين لم يكونوا في وضع أفضل فقد حمّلهم العالم مسؤولية النكبة، وفك الحصار المضروب جزئياً على خلفيات إنسانية تتعلق بأن ينتصر العالم للشعب لا لرؤسائه ولا لحكومته ولا لمسؤوليه. لا بل فقد حاكمهم ميدانياً ووَجّه إليهم شتى انواع الإتهامات المشينة والمهينة. وبعدما لم يكتف العالم بمناصرة الشعب اللبناني، اطلق الرئيس الفرنسي مبادرة إنقاذية حَشد لها مسبقاً كل اشكال الدعم الدولي طالباً الفرصة الأخيرة للمسؤولين وإعفائهم من شتى العقوبات لعله ينجح في اطلاق برنامج عمل شامل ينقذ لبنان لمجرد قبولهم بما سيفرضه العالم من آليّات حل، أولاها كانت «حكومة المهمة» على أمل ان تكون قادرة على إدارة مرحلة الاصلاح وملاقاة الجهود والوعود الفرنسية بالإنابة عن الدولية بمؤتمر الدعم المالي وما سيليه من برامج يطلقها الحوار بين لبنان وصندوق النقد الدولي في أقرب فرصة.

 

لا يمكن لأحد ان يتجاهل انّ خريطة الطريق الفرنسية رسمت صيغاً جديدة للحل لم يعتدها الطاقم السياسي، الذي وجد الرئيس المكلف يقوم بمهمة تشكيل الحكومة منفرداً بمعزل عن رؤساء الكتل النيابية التي مَحضته ثقتها رافضة ان يكون لمعظمها أي مطلب. وبمعزل عمّا قيل ويقال عن تدخّل رؤساء الحكومات السابقين والرئيس سعد الحريري من بينهم خصوصاً، فقد تناسى هذا البعض انه مَن اشترط عند التفاهم على اديب أن يكون هو راعياً لخطواته ومتبنّياً لتوجهاته بعد الادعاء بتسميته وتفضيله على آخرين.

 

وعليه، ولمّا جاءت تسمية اديب تحت «عباءة» المبادرة الفرنسية من خارج نادي الرؤساء، فقد كلّف مهمة الانقاذ برعاية دولية غير مسبوقة قبل ان يجري تفخيخها من الداخل بالشروط والشروط المضادة التي عطّلتها، وأخطرها كان رفض ان تكون حقيبة وزارة المال لغير الطائفة الشيعية واستمرار حق الثنائي في تسمية وزرائه رداً على العقوبات الاميركية التي طاولت احد ابرز وزراء الحقيبة المختلف حولها، وهو ما ادى الى فرملة عملية التأليف وتهديد ما قالت به المبادرة الفرنسية من مهل.

 

من هذه المنطلقات بالذات، يمكن النظر الى مبادرة الحريري أمس الأول، والتي خرقت جمود التأليف وإلقائه الكرة في ملعب الثنائي. فقد بات مطلوباً ان تجري العملية كما وعد أطرافها. ومن بين التعهدات ان يقدّم الرئيس نبيه بري بالإنابة عن الثنائي لائحة إسمية ولو ضَمّت 10 اسماء ليختار الرئيس المكلف واحداً منها لوزارة المال. وان احتفظ الثنائي بحقه في تسمية بقية الوزراء ومضى في تفسير بيان الحريري والبحث في بعض العبارات، فقد يختل التوازن مجدداً إلّا ان كانت هناك عملية توزيع ادوار. وعندها سينسحب «الحق الشيعي» ليستنسخه آخرون في «التيار الوطني الحر» او «الحزب الديموقراطي اللبناني» أو «المردة»، فتعود اللعبة الى مربعها الاول بإعادة تسمية الوزراء بالطريقة التي أنهت مهمة حكومة دياب قبل ان تباشرها، فكانت السقطة الكبرى التي يمكن ان تتكرر في أي لحظة من عمر الحكومة المقبلة.


 
 

وعليه، وفي ظل السيناريوهات التي تتحدث عن شروط إضافية يمكن ان تظهر بين ليلة وضحاها، يبقى على الجميع ان يفهم انّ المبادرة الفرنسية هي آخر المحاولات الدولية المتاحة، وانّ فشلها او تجميدها قد يؤدي الى فتح «أوتوستراد عريض الى جهنم» كما توقّع رئيس الجمهورية. وما لم تجر الامور على ما يجب ان تكون مستندة الى الآليات الدستورية السلسة، فإنّ لبنان سيبقى مصلوباً ومعلّقاً بين الحياة والموت.

 

وختاماً، انّ الحديث عن نزاع سني ـ شيعي تحت سقف التشكيلة الجديدة سيكون أمراً بغيضاً ومرفوضاً، لأنّ ما هو مطلوب الخروج من هذا المنطق ليتقدّم البعد الوطني الشامل للحكومة ومهمتها، عندها لن يكون هناك خاسر مسيحي مارونيّاً سواء كان او كاثوليكياً او أورثوذكسياً أو مسلماً سنياً او شيعياً ودرزياً، فلبنان الصيغة في خطر في مئويته الاولى، خصوصاً انّ هناك هواجس عدة عبّر عنها البعض بصراحة وبعدم اقتناعه بهذا «اللبنان الكبير» وحجمه وظروف ولادته. وهو ما يؤدي الى اقتناع بوجود من يسعى الى استغلال لحظة الخطر المحدق بمصير البلد ومستقبله بكامله لينال ما يؤدي الى تكريس أمر واقع قد لا يطول الوقت لخسارته مجدداً، طالما انّ ما هو مطروح خارج المألوف دستورياً وسياسياً ووطنياً.