نجح الثنائي الشيعي بتحويل عقدة المالية إلى أم العِقد الحكومية، وهو أرادها كذلك لثلاثة أسباب أساسية: حاجته لانتصار سياسي، تأكيده بأنّ لا تسوية من دونه، وتكريسه التوقيع الثالث بغطاء فرنسي.

 

إتكأ الثنائي الشيعي، من خلال تمسّكه بحقيبة المالية ورفع سقف المواجهة فيها إلى حدّ إسقاط المبادرة الفرنسية ودخول لبنان في نفق الفوضى، على عاملين أساسيين:

 

العامل الأول فرنسي، لإدراك «حزب الله» بأنّ أولوية باريس إنجاح مبادرتها والظهور أمام العالم بأنّها لم تفشل في لبنان، وانّ وساطتها أثمرت ولادة الحكومة من منطلق أنّ هدفها ليس كسر الحزب إنما إنقاذ لبنان.


 
 

وقد استفاد الحزب من تمايز الموقف الفرنسي عن الأميركي، واستثمر في هذا التمايز من زاوية انّ باريس أمام خيارين: الخيار الاول، ان يكون موقفها نسخة طبق الأصل عن الموقف الأميركي، ما يعني انّ لا حاجة لدورها في لبنان والمنطقة، لأنّ اي كلام سيكون مع الأصيل الأميركي لا الوكيل الفرنسي.

 

والخيار الثاني، ان تكون وسيطاً نزيهاً، والوسيط عليه ان يأخذ في الاعتبار موازين القوى على الأرض، بعيداً من الموقف او القناعات السياسية. وأنّ أي تسوية يمكن ان ترعاها، يجب ان تكون عادلة ومتوازنة تبعاً لموازين القوى، فلا تتبنّى وجهة نظر على حساب أخرى.

 

ويعوِّل الحزب على جانب أساسي، وهو انّ باريس لا تريد ان تكون خلف الأميركي في المنطقة، وان تحرم نفسها من دور متقدِّم على هذا المستوى، بل تريد ان تؤدي دورها بمعزل عن واشنطن ومن دون ان تتناقض معها. كما يعوِّل الحزب على أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون لا يريد الاكتفاء بأدوار داخلية أو أوروبية بحدّها الأقصى، بل يسعى الى إعادة الدور الخارجي لفرنسا، والذي لا يمكن ان يتحقق سوى في حال انتهج خطاً مستقلاً عن الخط الأميركي.

 

وانطلاقاً من تشخيص الحزب للدور الفرنسي، راهن بأنّ باريس لن تفرِّط بمبادرتها ولن تخوض مواجهة مفتوحة معه، وانّ تصلبُّه سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى تليين الموقف الفرنسي، الذي يريد ان تنطلق مبادرته وتنجح، لا التوقُّف أمام تفصيل من هنا او من هناك. وهذا ما حصل مبدئياً من خلال بعض التسريبات التي تفيد بأنّ المداورة مسألة لبنانية لا فرنسية، وانّ الأولوية الفرنسية تنحصر في إنقاذ لبنان.

 

ولكن، كيف يمكن إنقاذ لبنان إذا كانت الحكومة ستكون نسخة طبق الأصل عن سابقتها؟ وكيف يمكن الإنقاذ مع إسقاط مبدأ المداورة والخضوع لشروط فريق في وزارة، أراد ان يربط النزاع فيها، ليؤكّد على حقه في التوقيع الثالث، في اجتهاد غير منصوص عنه في الدستور، ولم يكن جزءاً من مداولات اتفاق الطائف؟ 


 
 

أما العامل الثاني الذي اتكأ عليه الثنائي الشيعي، في مواجهة حافة الهاوية التي خاضها في وزارة المالية، فاستند فيه إلى معرفته برؤساء الحكومات وقدرته على دفعهم إلى التنازل والتراجع عن موقفهم تحت عناوين مختلفة في طليعتها «أم الصبي»، والحرص على الاستقرار، تجنّباً للمجهول في حال عدم تأليف حكومة. وكأنّ هذا الاستقرار يفيد جهة دون الأخرى. ولكنه يراهن انطلاقاً من تجربته الطويلة مع هذا المكون، انّ باستطاعته استمالته في نهاية المطاف.

 

وقد استخدم الثنائي الشيعي، تحقيقًا لهدفه، التعبئة المذهبية، من أجل تخويف رؤساء الحكومات او منحهم خشبة التخلُّص من تمسّكهم بالمداورة الشاملة. والكلام عن محاولات تهميش الطائفة الشيعية وفرض التسويات والشروط عليها وضرب الشراكة والتذكير بزمن الحرمان وتوصيف إخراج المالية من حصة الشيعة، بأنّه الفتنة بعينها، وما إلى هنالك من أدبيات تندرج كلها في سياق التعبئة المذهبية التي لا تخدم الثنائي، ولكنه اضطر إلى استخدامها لدفع رؤساء الحكومات إلى التراجع، تحقيقاً لمبتغاه بإبقاء المالية داخل كنفه، ما يؤشر إلى أهمية هذه الوزارة بالنسبة إليه كخطوة أساسية على طريق المثالثة.

 

وحصوله على المالية في حكومة الرئيس أديب، يعني انّ هذه الحقيبة تحولت فعلاً إلى مصاف الرئاسات الثلاث، التي لا يمكن المسّ بها قبل تغيير كل النظام السياسي. كما يعني، انّ ما انتزعه برعاية فرنسية وفي أصعب وضعية سياسية موجود فيها، لن يتنازل عنه في اي حكومة مقبلة، فيما الفرصة كانت أكثر من متاحة لوقف انتهاك الدستور: مبادرة فرنسية، لا خيار أمام الحزب في حال سحبت باريس مبادرتها، فهو غير قادر على التكليف والتأليف، وفي حال أقدم لن يتمكن من معالجة الأزمة المالية التي يحمِّله معظم الشعب اللبناني مسؤوليتها. والخيار أمامه هو بين المبادرة والفوضى. وجلّ ما هو مطروح المداورة الشاملة، وفريق وزاري مستقلّ ومتجانس لمرة استثنائية، من أجل إخراج لبنان من أزمته. وبالتالي، إذا نجح على رغم كل ما تقدّم بانتزاع المالية، فيعني انّ ما قبل هذه الحكومة لن يكون كما بعدها، وانّه انتزع فرنسياً ومحلياً مشروعية التوقيع الثالث.

 

ولكن السؤال الذي لا إجابة عنه: ما العوامل والأسباب التي يمكن ان تدفع قوى سياسية للتنازل عن حقّ مكرّس بالدستور أو تكريسها أعرافاً غير ملحوظة في الدستور؟ وإذا كان الحزب، وهو في أضعف لحظة سياسية، إن خارجياً مع انكفاء طهران وتقدّم واشنطن، وإن داخلياً مع فشل مشروعه السياسي، قادراً على فرض شروطه خلافاً للدستور، فكيف يمكن تصويب المسار ومتى، لا سيما انّ المطروح ليس مشروع غلبة، إنما التقيُّد والالتزام بالدستور؟

 

ولم تدخل المبادرة الفرنسية على خط الأزمة اللبنانية إلّا بسبب وصول الأكثرية الحاكمة إلى حائط مسدود، وعلى أثر انفجار 4 آب، الذي كشف حجم الفشل المتمادي. فيما أثبتت حكومة الرئيس حسان دياب، أنّه يستحيل إخراج لبنان من أزمته بالأساليب التقليدية المعتمدة، وانّه لا بدّ من أجل الإنقاذ، من مقاربة استثنائية ترتكز على ثلاثة عناصر أساسية: حكومة مصغّرة ومتجانسة قادرة على العمل، مداورة شاملة لا استثناء ولا اجتهاد فيها، ولا تأثير لأي فريق على اختيار الوزراء. لأنّه خلاف ذلك، ستكون البلاد أمام حكومة دياب جديدة، فيما الإنقاذ يستدعي، ولو لمرة واحدة، تأليفاً استثنائياً. والأغرب انّ الفريق الذي يتحمّل مسؤولية النكبة القائمة، لا يريد منح فرصة للإنقاذ، ويتمسّك بالنهج القديم نفسه.

 

ولا يعقل بعد 4 آب وما أصاب البلد من أزمات متراكمة، ان يتواصل نهج المسايرة والتنازلات. ومجرّد بقاء حقيبة المال مع الفريق نفسه، وبمعزل عن التداعيات السياسية لهذا الأمر من زاوية تشريع المثالثة، فإنّ وقع هذا الأمر على الناس سيكون سلبياً جداً، ولن تمنح الحكومة فرصة من الداخل قبل الخارج، فيما بداية الإنقاذ تكون عن طريق تخيير هذا الطرف بين ما هو معروض طبقاً للدستور وطبيعة المرحلة والأزمة المالية، وبين انّ يشكّل الحكومة التي يريد، ولكن اي تنازل يشكّل إجهاضاً للمبادرة الفرنسية والفرصة الإنقاذية التي لاحت في الأفق.

 

لا شك انّ «حزب الله» بحاجة لتسجيل انتصار سياسي في هذا الوقت بالذات، بسبب أزماته المتعددة خارجياً وداخلياً. ولكن اي انتصار على حساب مشروع الإنقاذ ستكون مفاعيله عكسية. وكل الكلام عن الفتنة والإستئثار والحرمان، هو تضخيم في غير محله، من أجل دفع الفريق الآخر للتنازل. 


 
 

ويبقى انّ الوصول إلى هذا النوع من الكباش غير مرحّب به سياسياً، ويفترض غالباً تفاديه بسبب خطورته لجهة الانطباعات التي يخلِّفها، من قبيل انّ من يأخذ المالية يكون الغالب والطرف الآخر المغلوب، والحري بالطرف الذي قرّر قيادة هذه المواجهة ان يحسبها جيداً، فإما ان يذهب في مواجهته حتى النهاية، بمعزل عن الكلفة، باعتباره يتسلّح بالدستور وضرورة إنقاذ لبنان، وإما ألّا يخوض هذه المواجهة من الأساس، تجنباً لزيادة إحباط الناس إحباطاً؟

 

فكيف سينتهي هذا الكباش، بعد ان تحولت حقيبة المالية إلى معيار لانتصار طرف وهزيمة آخر؟