وفي كل الأحوال علينا ألا ننتظر أن نفهم ما يحدث وما قد يحدث فالسياسة هي تعطيل قدرة العقل العادي على الفهم كما يقول أحدهم، وكم أعجبُ من أمّةٍ حتى وهي تكادُ تعرف المستقبل من المنجّمين لم تتحرّك لتغيير قدرها ولا هي تغيّرت !
 

التّنجيم في لبنان ظاهرة أساسيّة و-ضرورة شعبيّة- لا يُستغنى عنها ! ولا يكادُ أحدٌ في لبنان يحرّكُ بيدق قدمه، إلا قبل معرفة ما يُخفيهِ غده!

هنا، يستضيف نيشان أصحاب الفنجان، وهنا يَزورُ الناس المنجّمين في كل حين ليعرفوا من الجان أسرار العِرفان، وهكذا غدتْ البَرامجُ التلفزيونيّة التي تستضيفُ المُنجّمين أحيانًا أهمّ من مُتابعة النشرات الإخباريّة نفسها، ففي السنوات الأخيرة، أضحى بعض المنجّمين هم الأهمّ وغدَوا من أبرزِ المُذيعيين، بعدما سُلبتْ من المذيعيين أنفسهم «الأخبار الحصريّة» وصار الغد «مكشوفًا» بل ما قد كان يُمضيه المذيع الإخباريّ من وقت لاستقراء الوقائع أصبح بإمكان منجّم أن يختصره ويتجاوزه بقراءة طالعه ! وهكذا أصبح ما هو عاجل أقلّ رُعبًا وإدهاشًا لدى اللّبنانيين ! 

 

دائمًا، تقول ليلى عبد اللّطيف أنّها خائفة، حتى في مكالماتها الهاتفيّة، وتشعر بالقلق شهريًا، حتى أنني أجزم أنها قد تجاوزت بان كي مون (الأمين العام السابق للأمم المتحدّة) في عدد مرات إعرابه عن قلقه من عدة أحداث سياسية !

 

حدث الانفجار الذي طال المرفأ وهزّ بيروت، أعاد توّقعات المنجمين له إلى  الواجهة مثل توقعات ليلى عبد اللطيف وميشال حايك اللذان لازلت حلقة كل منهما تحقق نجاحًا كبيرًا في نسبة المشاهدة عقب الواقعة، ولكن هذه المرة مع غضب لبناني كبير، وارتفعتْ أصوات بمطالبة التحقيق معهما بشأن الأخبار التي يأتون بها ومساءلتهم في المحاكم هذه المرة، كما طالتهم تهم بالتورّط في معرفة ما تُخفيه الحكومة اللبنانية على الشعب بعد، وقال البعض بأن من أمثال ميشال هم رجال استخبارات في أثواب متكهنين، ويَأخذون ما تريد بعض الأحزاب أو الأطراف تسريبه وما يخطط لتنفيذه قبل أوانه مع تواطؤ بينها وبينهم، وهي وجهة نظر لا يمكن تسخيفها وتفنيدها بالكامل لكنها تحمل كثيرًا من الصواب.

 

في سلوك علم النفس الاجتماعيّ والسياسيّ توجد قاعدة لكسب السيطرة على الأفراد والمجتمعات وهي تهيأتهم نفسيًّا لقبول الأحداث القادمة حتى تكون ردة الفعل أقل وأحيانا بهدف تعجيزهم بإخافتهم بطرق لا مباشرة، وهو نوعٌ من أنواع التأثير المسمّى بالتلاعب النفسي Psychological manipulation، وهكذا ما من حدث خطير أو وشيك إلا وقد تمّتْ برمجته ذهنيًّا في نفوس المشاهدين والشّعب ككلّ لتقبله ببساطة، وما من شك في أنّ الأنظمة في لبنان تنتهج هذا النوع من البروباغندا تحت خلفيّة إيديولوجية، وتفرّد لبنان بطريقته الخاصّة في ذلك، وهي استخدام المنجّمين وإدخالهم الساحة السياسية حسب غايات بعض المصالح والأهداف التي تحول المعلومة المنتظرة إلى سلاح يعمم ثقافة الخوف، ولذا لا أستبعد شيئًا، وبالرغم من كل ما قيل وأُستُطلِعَ عليه يظلّ جُزءًا صغيرًا ممّا تريد هذه الجهات أن نعرفه، ألم يقل رولان بارت: "ما يُرينا العَالم هو بالذات الذي يعمينا عن النظر إليه"؟ ليصبح بذلك أيضا أن ما يرينا حقيقة مُطلّعة، يريدنا فقط أن نعرف ما يريدنا أن نعرفه ويُعمينا عن معرفة الباقي، وهكذا نغدُو كما العميان الذين يتشبثون بتلابيبِ البَصّارة الذين نعتقد أنهم وحدهم يرون ما لا نراه !

 

الأهم في ما يحدث أن نعرف من الذي يقتل "غد" لبنان قبل أن يأتي إلينا غدًا مظلِمًا. وفي كل الأحوال علينا ألا ننتظر أن نفهم ما يحدث وما قد يحدث فالسياسة هي تعطيل قدرة العقل العادي على الفهم كما يقول أحدهم، وكم أعجبُ من أمّةٍ حتى وهي تكادُ تعرف المستقبل من المنجّمين لم تتحرّك لتغيير قدرها ولا هي تغيّرت !

 

 

محمد الخزامي