المبادرة الفرنسية لن تقع. على الأقل هذا ما تبديه بثقة الاوساط الديبلوماسية الاوروبية.
صحيح أنّ تعقيدات داخلية أوجبت طرح السؤال حول مصير المبادرة الفرنسية، الّا انّ الثقة الاوروبية قد يكون لها علاقة بخارطة اصطفافات سياسية جديدة في الداخل اللبناني، بسبب «عصا العقوبات»، والأهم الواقع الاقليمي ومستجداته والتحدّيات الجديدة، والتي تدفع الى التجاوب مع الفرنسيين لا العكس.

 

وحتى الاوساط الديبلوماسية الاميركية، والتي تراقب بدقّة المستجدات اللبنانية وخصوصا الآثار الناتجة من آخر قرارات عقوباتها، ترى انّ هنالك حظوظ نجاح جيدة للمبادرة الفرنسية، مع تمسّكها بالحذر، وفق القاعدة التي تقول بأنّ المفاجآت ليست غريبة عن الساحة اللبنانية.


 
 

الواقع، انّ انفجار مرفأ بيروت التدميري اطاح ليس فقط بالمرفأ وبأحياء كاملة من العاصمة، بل بأمور كثيرة لا نراها بالعين المجرّدة، كمثل دفن حقبة والتأسيس لحقبة جديدة. وبعد صدور العقوبات الاميركية على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، قرأ البعض خطأ الموقف الاميركي، ومن زاوية الشغب على المبادرة الفرنسية في لبنان.

 

لكن هؤلاء فاتهم اقتراب الموقف الاميركي من الفرنسي حيال الصراع الدائر مع تركيا في شرق بحر الابيض المتوسط. وكان واضحاً موقف واشنطن على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو، عندما ابدى قلق بلاده من التحرّكات البحرية التركية. ما يعني انّ واشنطن ليست بوارد وضع العراقيل امام التوغل الفرنسي في شرق المتوسط، وايضاً في لبنان، الذي يشكّل ساحله قاعدة ارتكاز مهمة.

 

وفي المقابل، لا يبدو النفوذ التركي مهماً او مؤثراً في لبنان حتى الساعة. وهو ما يحتّم وجوب الإمساك بالساحة اللبنانية واقفالها سريعاً. ولذلك مثلاً، قال بومبيو في الثالث من ايلول، بأنّ لواشنطن الاهداف نفسها في لبنان مع الفرنسيين.

 

هذا من جهة، ومن جهة اخرى هنالك التطورات المتعلقة بالتطبيع مع اسرائيل، والتي لحظت في جديدها دخول البحرين على هذا المسار.

 

وبالتالي فإنّه لا بدّ من رصد ردّ فعل ايران على خطوة التطبيع بين اسرائيل والبحرين، خصوصاً انّ الاخيرة قريبة جغرافياً من السعودية ولديها علاقات متوترة اصلاً مع ايران، وحيث انّ 60% من مواطنيها من الطائفة الشيعية.

 

ومعه، فإنّ السؤال، هو ما اذا كان هذا التطبيع مجرد تحضير للاتفاق القادم مع السعودية، كما قالت صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية.

 

وقد يكون هذا الواقع يحتّم ساحة هادئة في لبنان لا ساحة تتصاعد فيها الضغوط.


 
 

ووفق ما سبق، فإنّ الانطباع الغالب يؤشر الى انّ الظروف الاقليمية هي لصالح المبادرة الفرنسية لا العكس. رغم ذلك، فإنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي شعر بأنّه أُصيب بشكل مباشر جراء وضع معاونه الأقرب علي حسن خليل على لائحة العقوبات، بدا مستاءً من باريس، لقناعته بأنّه لا بدّ وان تكون واشنطن قد وضعت المسؤولين الفرنسيين في اجواء قرار العقوبات قبل الاعلان عنه.

 

فهو كان يعتقد انّه وجّه اشارة ايجابية للاميركيين، عندما اعلن عن قرب الانتهاء من الاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية، وأخرى للفرنسيين مع فتح ابواب التعاون، منذ وطأ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ارض لبنان بعد انفجار بيروت.

 

وفي المفاوضات التي جرت مع الفرنسيين حيال ما بات يُعرف بعقدة المداورة او بتعبير أوضح عقدة حقيبة المال، كانت الشكوى الشيعية حيال مستجدات ما بعد اتفاق الطائف والتوقيع الشيعي، وانّ هذه نقطة اساسية لا يمكن المساومة عليها، اضافة الى انّ الرئيس مصطفى اديب رفض ولا يزال النقاش مع رئيس المجلس النيابي في اسماء الوزراء الشيعة: «فماذا لو فوجئنا بأسماء هي معادية لنا. ماذا نفعل عندها؟».

 

وفي الشكوى ايضاً للفرنسيين، بأنّ استبعاد الاحزاب، ولا سيما الثنائي الشيعي عن رعاية اسماء الوزراء الشيعة، سيعطي انطباعاً فورياً بإدانة الثنائي الشيعي بالفساد، وهو ما استوجب اقصاءه عن المشاركة في اختيار الاسماء. وجرى الحاق هذه الشكوى بعرض يقول بترك التسمية لرئيس الحكومة، ولكن مع اطلاع الثنائي الشيعي مسبقاً على الاسماء، بحيث يجري اعطاؤه تعويضاً معنوياً على موافقته المسبقة. وجهد مدير عام الامن العام اللواء عباس ابراهيم في إحداث فجوة في الجدار الفرنسي، لكن عبثاً، فإنّ مدير المخابرات الخارجية الفرنسية برنار ايمييه، اعتبر انّ الاخلال ببند من المبادرة المطروحة سيؤدي الى ضرب المبادرة الفرنسية من اساسها، ومضيفاً بأنّ باريس لم ولن تدخل في لعبة الاسماء التي هي من مسؤولية واختصاص الرئيس المكلّف وحده، وباريس تدعم موقفه.

 

في المقابل، جرت مشاورات داخلية عاجلة، وعلى اساسها ان يقوم رئيس الجمهورية برفض الصيغة الحكومية التي سيقدّمها اديب، وذلك لأنّ تركها تذهب الى مجلس النواب، سيؤدي الى مواجهة فرنسية وربما دولية مع الرئيس بري. لكن الرئيس عون لم يبدِ حماسة لهذا الطرح، لأنّه سيضعه هو في مواجهة مع الفرنسيين، في وقت تشتد فيه الضغوط على النائب جبران باسيل. وبدا انّ المَخرج الوحيد القابل للتنفيذ، يقضي بإبقاء رئيس الجمهورية للصيغة الحكومية لبضعة ايام معه، بحجة دراستها قبل اصدارها واحالتها الى المجلس النيابي.

 

وقيل انّ الرئيس بري يشتبه بوجود بصمات لبنانية مساعدة في قرار العقوبات الاميركي.

 

في الواقع بدت الابواب كلها مغلقة، مع وجود معطيات بأنّ وزارة المال ستذهب لوزير من الطائفة السنّية.

 

وتردد انّ اللواء ابراهيم اقترح تمديد مهلة الـ 15 يوماً التي كان منحها ماكرون لتشكيل الحكومة، لإعطاء بعض الوقت للمفاوضات. لكن الفرنسيين الذين رفضوا تمديداً طويلاً، ابدوا تجاوباً مع اضافة بضعة ايام، افساحاً للمجال امام المشاورات.

 

ويبدو انّ الاوساط الديبلوماسية تأمل ان يؤدي التمديد لبضعة ايام، الى انجاز تسوية تتضمن اعطاء ضمانات حيال المرحلة المقبلة، في مقابل فتح الطريق امام الولادة الحكومية، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية بات ملتزماً بدوره بالتوقيع على التشكيلة الحكومية التي سيقدّمها الرئيس اديب، وكذلك التزم جبران باسيل بالمبادرة الفرنسية، آخذاً مسافة من الثنائي الشيعي في مسألة اساسية ومصيرية للمرة الاولى منذ العام 2006.

 

اما اذا حصل ما ليس في الحسبان، وجرى إسقاط التشكيلة الحكومية وبالتالي اعتذار مصطفى اديب، فإنّ ماكرون ملتزم بإدراج العقوبات كما كان اعلن على الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، بالتوازي مع تدهور سريع في الاوضاع، وهو ما سيفتح الباب الوحيد المتبقي من خلال تشكيل حكومة من عسكريين وقضاة، وتترأسها شخصية سنّية من السلك القضائي.

 

والواضح، انّ الطابع العسكري - القضائي لهذه الحكومة يُعطي فكرة واضحة عن برنامج عملها، والذي سيكون مترافقاً مع دخول مجلس الامن الدولي على الخط هذه المرة، وفق ما ترويه اوساط ديبلوماسية مطلعة.