السؤال الأبرز الذي طرح فور الإعلان عن العقوبات في حق الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس: هل مسار العقوبات مختلف عن مسار المبادرة الفرنسية؟ وهل هو ردّ على هذه المبادرة؟ وهل حصل بالتنسيق مع باريس أم برسالة ضدها؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟

هناك من يقول انّ مسار العقوبات هو مسار قائم بحد ذاته ولا علاقة له بأيّ مسار آخر سياسي أو غيره، ولا يتأثر بتطور من هنا او حدث من هناك، إنما يأتي في سياق اكتمال المعطيات لدى الخزانة الأميركية التي تعمل بشكل منفصل عن الإدارات الأميركية الأخرى. وبالتالي، من الخطأ وضع العقوبات الأخيرة في إطار التصعيد المقصود قطعاً للطريق على المبادرة الفرنسية التي هي منسّقة أساساً مع واشنطن باعتراف أكثر من مسؤول أميركي وفرنسي، فيما كل هدف هذه المبادرة ليس تعويم الوضع في لبنان، إنما منعه من السقوط قبل الانتخابات الأميركية، وربط اي حلّ فيه بالحلول المرتقبة على مستوى المنطقة.

 

ولكن هناك من يقول في المقابل ان العقوبات هي خطوة سياسية بامتياز، وكان باستطاعة واشنطن، لو أرادت ذلك، تجميد الإعلان عنها في هذه اللحظة بالذات إفساحاً في المجال أمام المبادرة الفرنسية بدلاً من التشويش عليها، في رسالة واضحة المعالم انّ القرار في لبنان هو لواشنطن وليس لباريس، وانّ المبادرة غير مرحّب بها، وانّ الرئيس إيمانويل ماكرون يستطيع ان يقول ما يريد، إنما لا يستطيع ان ينفِّذ ما يشاء إلّا تحت السقف الأميركي، وضمن الهامش الذي تحدده واشنطن التي تبقى ضابطة إيقاع المشهد السياسي في لبنان.


 
 

وفي موازاة هذا القول وذاك، هناك من يقول أيضاً انّ العقوبات ليست موجّهة إطلاقاً ضد المبادرة الفرنسية المنسقة بالكامل مع واشنطن، وهذه المبادرة لا تعني أساساً تجميد العقوبات او غيرها، إنما منع سقوط لبنان في مستنقع الفوضى او الحرب الأهلية، وانّ باريس كانت بصورة الإعلان عن العقوبات التي تشكّل تكاملاً مع المسعى الفرنسي على طريقة «العصا والجزرة»، وانها رسالة مشتركة من العاصمتين وتحديداً في هذا التوقيت من أجل تسهيل عملية تأليف الحكومة وتَخيير المعرقلين بين «اختفاء الدولة» او التعاون تحت سقف المبادرة الفرنسية وشروطها.

 

وبمعزل عن كل ذلك تحوّلت العقوبات إلى أمر واقع، واللائحة لن تقفل عند هذا الحد، بل هناك المزيد من الأسماء المدرجة، وهذا يعني انّ المبادرة الفرنسية لن تبدّل في جوهر الاستراتيجية الأميركية القائم على تسعير المواجهة مع منظومة «حزب الله» حتى حدها الأقصى من أجل التضييق عليها وصولاً إلى عزلها وإلزامها بتسوية على الساخن او البارد بعد الانتخابات الأميركية، لأنه لا يمكن ان يُفهم من وراء هذه العقوبات إلّا رسالة واحدة، تفيد بأنه ممنوع على اي طرف لبناني ان يكون على علاقة مع الحزب، وإلّا يُدرج على لوائح العقوبات، وهذا الأمر لن يقف عند حدود مشاركته في الحكومة بل التحالف معه في الانتخابات، وحتى التواصل السياسي معه.

 

وهذا يعني انه ممنوع على فريق 8 آذار ان يكون في السلطة او ان يتبوأ ايّ موقع عام، وإذا كانت بيئة الحزب المقطوعة التواصل مع الخارج اعتادت بشكل أو بآخر على هذا الأمر، فإنّ البيئات الأخرى لا يمكنها التكيُّف مع عقوبات من هذا النوع. وبالتالي، ستجد نفسها تلقائياً في وضع المضطر إلى التَمايز عن الحزب بمعزل عن مواقفها المعلنة، الأمر الذي سيزيد في عزلة الحزب وغضبه، وسيكون أمام خيار من اثنين: إمّا التصعيد إلى حدود المواجهة وقلب الطاولة في لبنان، او ان يعتمد مع حلفائه القواعد التمايزية نفسها التي يعتمدها مع الدولة، بمعنى انّ مواقفه التي لا تلزم الدولة اللبنانية، لن تلزم من الآن فصاعداً هؤلاء الحلفاء، ولكنه سيكون كمن يقاتل تراجعياً، ويعرِّض كل من يقترب منه لعقوبات ستضعه أمام أمر واقع وكأنه غير مرغوب به.


 
 

وفي مطلق الأحوال لا يمكن لهذا التطور ان يستمر طويلاً، لأن لا الحزب يستطيع تحمُّل هذا الوضع لا سيما مع تطور العقوبات وتوسعها، ولا لبنان بدوره يستطيع التعايش مع هذا التطور المستجد، خاصة انّ هذا التصعيد مدروس والهدف منه توجيه رسالة إلى اللبنانيين مفادها انّ التعايش مع «حزب الله» أصبح مستحيلاً. وإذا كان الطلاق بدوره مع الحزب مستحيل من دون حرب، فإنّ هذا التأزيم المدروس يستدعي عاجلاً أم آجلاً الوصول إلى طاولة حوار لبنانية برعاية دولية عنوانها: مستقبل الحزب في لبنان دوراً وسلاحاً، واستطراداً مستقبل النظام السياسي اللبناني.

 

وقد دلّت المبادرة الفرنسية بوضوح انها لتقطيع الوقت، وانّ المواجهة الأميركية مع «حزب الله» من دون سقف، والحزب بات يدرك ذلك، وكلامه الأخير عن المؤتمر التأسيسي جاء في إطار «رَد الإجر» للفرنسيين، وتحديداً الأميركيين، بأنه على استعداد لبحث سلاحه في الوقت المناسب، لأنّ هذا التصعيد المبرمج لا يمكن ان ينتهي سوى باحتمال من اثنين: إنهيار الدولة والدخول في الفوضى تمهيداً لإعادة هندسة لبنان وصياغته، أو استباق الانهيار بالجلوس لبحث مصير السلاح، كما انّ الهدف من هذا التصعيد القول للحزب انه لم يعد من خيارات أمامه، وانّ هذا التصعيد سيتواصل ويشتدّ وصولاً إلى التسوية النهائية، ومن الآن حتى يحين أوان هذه التسوية سيكون على كل مكوّن لبناني ان يختار بين واشنطن والضاحية، اي ان يختار بين العزلة عن العالم، وبين الخط الممانع المأزوم من طهران إلى الضاحية الجنوبية، فلا حلول وسط، وتداعيات الخيار هذه المرة ليست سياسية فقط على غرار ما كانت عليه قديماً، لأنّ الخيار ليس بين الخط الأميركي والخط الإيراني إنما بين أن تشمله العقوبات او أن يتجنبها، ومن تشمله يصبح معزولاً عن كل العالم سياسياً ومالياً.

 

وإذا كان معلوماً انّ لبنان دخل في الفصل الأخير من أزمته، إلا انّ ما هو غير معلوم بعد كيفية تطور الأمور والأحداث حتى نهاية هذا الفصل الذي سيفتح الباب أمام لبنان جديداً. وكانت باريس واضحة بقولها انه فور وضع لبنان على سكة التعافي المالي، سيفتح البحث في مستقبل النظام السياسي.

 

ومع إعلان العقوبات برز سؤال من نوع آخر: هل يسهِّل «حزب الله» التأليف، أم يقطع الطريق على المبادرة الفرنسية ويسقطها عن طريق تأليف حكومة من لون واحد؟ وفي الإجابة سيسهِّل التأليف لـ3 أسباب متداخلة ومترابطة: أولاً، لأنه بحاجة لشراء الوقت وعندما يقطع الأمل من تغيير في الإدارة الأميركية يكون لكل حادث حديث، لأنه في موقع من يتلقى الضربات ومن غير المؤاتي ولا المناسب له راهناً إعلان المواجهة التي يمكن ان يعلنها بتوقيته لا توقيت غيره، ولأنّ سقوط المبادرة الفرنسية يعني سقوط الدولة في مستنقع الفوضى، وهذا الوضع يؤدي إلى إرباكه وتراجع نفوذه إلى حدود طائفته من جهة، أو يؤدي للانتقال إلى الحلّ النهائي فوراً من جهة أخرى، الأمر الذي لا يناسبه إطلاقاً قبل انتهاء الانتخابات الأميركية وربط الوضع اللبناني بالوضع الإيراني.