لقد وعى الشيعة متأخرين ضرورة العودة الى الدولة لكن بدون أوهام الغلبة والسلاح الذي مكنهم من طرد المحتل الاسرائيلي ويمكن أن يتحول إلى فخ إذا أسيء استخدامه .
 

لم تكن فكرة الدولة في لبنان عميقة الجذور، فلقد كان لبنان على مرّ العهود تتبع مدائنه للسلاطين عثمانيين كانوا أم مماليك، وحتى في ظل دولة الخلافة الإسلامية عباسية  أم  أموية كانت جغرافيته عصية في بعض الأحيان ومستلحقة 

في أحيان أخرى ونقاط تماس في أطوار أخرى، وكانت الصراعات والحروب التي مرت في التاريخ بين المسلمين والإفرنج تعتبره ثغرا من الثغور، ولذلك لم تقم فيه  دولة مستقلة الا في التاريخ الحديث.

 

 وبعد سقوط السلطنة العثمانية كان المسيحيون موارنة  أو روم ارثوذوكس  جاهزين وحاضرين بل ومطالبين لقيام دولة مستقلة، ففكرة الاستقلال عن المحيط المستتبع كانت ناجزة  بل وتحمل بعدا قيَميا لدى المسيحيين، في حين أن

الانسلاخ عن الدولة الاسلامية الكبرى يعتبر خيانة لدى المسلمين سنة كانوا أم شيعة فأهل السنة لم  يستسيغوا  فكرة الانفصال عن الدولة الإسلامية عثمانية كانت أم عربية، أما الشيعة فقد كانوا خارج لعبة السلطة باعتبارها غير حائزة

على الشرعية فهم يعتقدون أن لا شرعية لدولة أو سلطة في غياب إمامهم الغائب الثاني عشر المهدي المنتظر.

ولذلك وعند دخول الفرنسيين بلادنا إلى جانب جيوش الانجليز وحتى الالمان بعد الحرب العالمية الاولى استقرت الجيوش الفرنسية  في بلادنا وانتدبت حكاما وأنشأت دولة لبنان الكبير الذي تمر بنا اليوم ذكرى مئويته الاولى.

 

 لن نخوض كثيرا في احداث المئة عام التي حملت الكثير من المحطات التي أدخلت اللبنانيين في تشارك وتقاتل كانت في معظمها مختبرا حيا اصقلت التجربة وأثقلت كاهل اللبنانيين باختبارات نجحوا في بعضها واخفقوا في بعضها

الآخر.

 

 لن أقارب كل التجارب بل سأضع تجربة فريق من اللبنانيين على طاولة البحث والنقاش وهم المسلمون الشيعة اللبنانيون.

 

 ففي مرحلة التأسيس لهذا الكيان المستجد والذي عبر عنه كيسنجر ذات يوم انه خطأ جغرافي، وفي الحقيقة أنه معجزة في التنوع والتعدد شريطة أن تدار  بعقلانية في الحفاظ على الهوية الفرعية مع الانصهار بالهوية الوطنية

الجامعة،  وهذا بحاجة إلى إنجاز دائم.

 

 ما أشبه اليوم بالأمس ماكرون في بيروت 2020 يدعو اللبنانيين إلى عقد سياسي جديد ويقول صراحة أن نظامكم لم يعد يلائم عصركم فقد انتهت الصلاحية على أن تطوره من داخله وليس بانقلاب على كل تجارب الماضي وهو

يدعو إلى لبنان الجديد.

 

 غورو بالأمس 1920 كان منهمكا في مساعدة اللبنانيين بكل مكوناتهم المدنية والدينية  والسياسية على إنجاز دولة لبنان الكبير إشارة إلى أن تسمية لبنان كانت مقتصرة على جبله ، وقد ذكره المؤرخون والشعراء ومنهم المتنبي بجباله

وصقيعه ولعله مر به في شتاء فلم ير عذوبة هضاب سواحله التي تغسل أقدام جبله.

 

 لم يحتج الجنرال غورو مزيد عناء لإقناع المسيحيين على الإنخراط في فكرة قيام  الدولة فلقد كانوا جاهزين وعلى رأسهم البطريرك حويك وشخصيات حفظ لها التاريخ دورها ووجودها في تحقيق ما كان حلما بالنسبة إليهم، أما السنة

في زمن التأسيس فقد كانوا مدركين لضرورة النظام تابعا كان  أم مستقلا لأنهم كانوا في الديوان عند العثمانيين ويعرفون ضرورة الدولة والسلطة.

 

 غير أن الشيعة الذين لم تتبلور فكرة الدولة لديهم بعد وكانت مرجعيتهم الدينية أكثر التصاقا بالناس من البكوات الإقطاعيين الذين استفادوا من القرب لدى الولاة العثمانيين، وكان لديهم نضوج الاندماج في مشروع الدولة ولكن كانت

الغلبة في مؤتمر وادي الحجير الذي كان انعقاده في عام  1920 في الرابع والعشرين من نيسانه والذي كان مقررا فيه دراسة فكرة الانضمام إلى مشروع الدولة المزمع تأسيسها، فكان  لحضور مجموعتين مسلحتين كان يقودهم أدهم

خنجر وصادق حمزة اللذان كان لديهما نزعة التمرد والثورة غذاها لديهما السيد عبد الحسين شرف الدين وحمّل أعمالهما راية النضال في وجه المحتل الفرنسي.

 

 وبالواقع كان للسيد شرف الدين إيمان بمشروع الملك فيصل ابن الشريف حسين الذي ساهم في إطلاق الثورة العربية الكبرى والذي وقف بقوة إلى جانبها،  وكان من المنادين بالوحدة السورية تحت راية الملك فيصل, إذن لم تكن فكرة

الدولة ناجزة عند مرجع الشيعة انذاك وعمل على البقاء على الإتصال بسوريا وجعل جبل عامل ساحلا لدمشق.

 

حاول غورو كثيرا إقناع السيد شرف الدين  وهناك وثائق على اجتماعاته به تؤكد المحاورة لإقناع السيد شرف الدين لكن دون جدوى بعدها جهز غورو حملة إلى جبل عامل ودخل قرية السيد شرف الدين وأحرق داره ومكتبته وهرب

مهاجرا إلى فلسطين عن طريق الجولان وترك الشيعة مترددين وقلقين وخجولين في تبني فكرة الكيان والدخول به وقد دخلوا فيه على استحياء ما افقدهم الشراكة الحقيقية وأصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية.

 

 وفي لحظة تفاهم وتقاسم النفوذ بين الفرنسيين والانجليز تركت منطقة الشام ولبنان للفرنسيين واصبح المشغّل واحدا، عندها سقط بالكامل مشروع فيصل في الشام ومعه تلاشى حضور السيد شرف الدين ومعه علماء جبل عامل حتى

وصول السيد موسى الصدر الذي كان يحمل مشروعا فكريا أقرب للحداثة وأدق في فهم لعبة السياسة محاولا إدخال الشيعة من جديد إلى مشروع الدولة.

 

 بالأمس وفي ذكرى العاشر من محرم 2020 خطب زعيم الشيعة في لبنان السيد حسن نصر الله قائلا:  إننا منفتحون على أفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وشدد على اهتمامه بما يحمله من فكرة عقد اجتماعي سياسي مع

تحسره لو أن الفكرة صنعت في لبنان ومع إخفاق اللبنانيين في إنتاج عقدهم للبنان الجديد فهل وعى السيد نصر الله؟

ضرورة  الانحياز لقيام الدولة وضرب ما يقوضها من فساد وتفلت 

يسجل للسيد نصر الله نضوجه واستشرافه بعقل منفتح على اللعبة الدولية، مع تأنيه في قبول ما يعرض على الشيعة من توازنات جديدة في النظام المزمع تأسيسه أو إنجازه مع زيارات ماكرون المتتالية إلى لبنان.

 

لقد وعى الشيعة متأخرين ضرورة العودة الى الدولة لكن بدون أوهام الغلبة والسلاح الذي مكنهم من طرد المحتل الاسرائيلي ويمكن أن يتحول إلى فخ إذا أسيء استخدامه .

 

انظر بتفاؤل إلى ما بدأه إيجابيا مع الخارج ليترجمه تواضعا وتفهما وتقاسما وشركة في الداخل مع نظرائه في الوطن.