على الرغم من كثرة استعمال مصطلح التنوير ومرادفاته في مختلف اللغات وفي حقول معرفية مختلفة، فإن من الصعب الوصول إلى تعريف دقيق له، بل ان مؤرخي تلك الظاهرة مختلفون في تحديد دلالات، وحينما سئل كانط سنة ١٧٨٤ م، ماهو التنوير؟ أجاب: (التنوير هو تحرير الإنسان من الوصاية التي يفرضها على نفسه)، والوصاية في مفهومه هو عجز الإنسان عن استعمال قدرته على الفهم من دون توجيه الآخرين فلتكن لديك الشجاعة على ممارسة قدرتك على الفهم ذلك هو التنوير.

 

وحينما اتخذ التنوير شكلا معلنا فإن الوصف الأقرب اليه هو الحركة او الايديولوجيا، ويرى بعض الباحثين ان ذلك هو واقع الحال في فرنسا مثلا، إذ وصف العصر بأكمله اي القرن الثامن عشر الميلادي بعصر الانوار، ومع ان الجميع يتفق في أن التنوير او الانوار هو ظاهرة أوربية غربية شاملة، ولكن فرنسا تبقى علامة واضحة ومكانا تبلورت فيه المؤشرات التنويرية وعناصرها، وقدمت لنا مفكري التنوير.

 

إن مفهوم الفكر التنويري ليس حكرا على ثقافة معينة، بل هو منتج إنساني شاركت فيه مختلف الثقافات البشرية ومنها الثقافة الإسلامية عبر عصورها التاريخية، والمراقب لحركة الفكر الإسلامي يراه بشكل ومضات تنويرية في ظل ظروف فكرية واجتماعية حاله حال المجتمع الأوربي، إذ يسبق كل ومضة تغيرات وتليها تغيرات توازيها، وبذلك تظهر صورة التنوير الفكري بشكل حلقات معرفية وفكرية تترك بصمتها في الفكر السائد، ورغم عالمية فكر التنوير وانتقاله بالتاثير في الآخرين، لكنه يبقى وليد مرحلته، مرتبطا بالثقافة التي ولد في رحمها، فهي تحمل خصوصيتها رغم عمومية النهضة الفكرية والعالم الإسلامي مثال ذلك. (التنوير في الأدب، د. منى ابو سنه، ص٢٤).

 

وجاء التنوير مستكملا للمسيرة التي بدأها الإصلاح الديني وقادها حتى نهايته، إذ أكد على سلطان العقل ووحدة الفعل الإنساني، باعتبارها تجسيدا لوحدة الحضارة الإنسانية، وعلى حد قول ديكارت: (إن العقل اعدل الأشياء قسمة بين البشر).

 

المفكر التنويري عبد الجبار الرفاعي يعمل منذ ثلاثة عقود على تحديث الفكر الإسلامي وربطه بقضايا العصر، من خلال كتاباته، وجهوده في تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة التي مضى على صدورها 23 سنة ومازالت مستمرة في الصدور[1]، ومجموعة سلاسل كتب تصدر عن مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد بالتعاون مع دار التنوير ببيروت اليوم، ودار الهادي من قبل، وهي: سلسلة كتاب فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، وسلسلة كتاب ثقافة التسامح، سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة، وسلسلة كتاب تحديث التفكير الديني، وسلسلة كتاب آفاق التجديد، سلسلة كتاب فلسفة وتصوف. بلغ مجموع ما صدر في سلاسل الكتب هذه أكثر من 250 كتابا.

 

وحسب احد الباحثين: (إن مجلة قضايا إسلامية معاصرة من أهم المجلات المختصة بالفكر الديني في العالم الإسلامي برمته، فهي مجلة بلا حدود، وهذه صفة محمودة، فقد تجاوزت الحدود المذهبية، وحتى الحدود الإسلامية الخاصة، لتهتم بدراسة الدين بوصفه أعمق واغنى تجليات الروح البشرية، كما تخطت هذه الدورية الحدود الجغرافية العربية).

 

والقارئ لكتابات عبدالجبار الرفاعي يرى حرصها على اقتحام اشكالات راهنة في التفكير الديني، واثارتها أسئلة عميقة، ظل فيها الرفاعي مسكونا باسئلته، التي يولد فيها سؤال حقيقي تتوالد منه باستمرار أسئلة جديدة.

 

يقول الدكتور الرفاعي: (لاتبدا الحياة الإنسانية الحقيقية الا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية وهذه الذات لاتتحقق من دون العقل، فالوجود الإنساني لايصل إلى الإمتلاء الا بالفعل وحده، الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، قبل أن تشرع باستعمالها، وجود الحرية يعني ممارستها، والحرية لاتتحقق بعيدا عن مسؤولية الفرد تجاه ذاته، لحظة تنتقى الحرية تنتقى الذات، ولاتغتني الذات وتتسع وتتكامل الا بالحرية)، من مقالة عنوانها: "دعوة للخلاص من نسيان الذات".

 

 من خلال قيام الرفاعي بغربلة الموروث، وابعاد المفاهيم والمقولات التي تقف حائلا أمام التحديث والبناء والتنمية الشاملة، كانت مؤلفاته ومقالاته وبحوثه تثير الأسئلة من دون خوف من احد، لايمانه بأن المعرفة تبدأ بالسؤال، والسؤال يقودنا إلى التوغل في ما هو مسكوت عنه، وبالتالي يقودنا إلى إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين.

 

 في أحد حواراته يقول الرفاعي: (اما الإنسان فهو الكائن الاغرب والاعمق والاعقد في هذا العالم، وعلى حد تعبير نيتشه "ان كل إنسان أعجوبة فريدة" الكائن البشري بطبيعته عميق جدا، ومتناقض احيانا، يتغلب في طبيعته وحياته الشر على الخير، الحروب والصراعات لم تخلص هذا الكائن من الشر الذي يعبث في العالم، ربما ليس هناك دواء انجع من الحب واثراء الحياة الروحية والأخلاق ية بخفض الآثار الفتاكة للشر، وربما لاسبيل لتخفيف آلام الكراهية، ولا وسيلة لتقليل النتائج المرعبة للنزعة التدميرية لدى الكائن البشري سوى بالمزيد من الاستثمار في الحب، بالكلمات الصادقة، والمواقف الأخلاقية، والأفعال الجميلة، والإصرار على تجرع الصفح والغفران رغم مرارتهما).

 

ويرى الرفاعي ان: (الدين كائن حي ينمو ويتطور ويمرض، وربما يصاب بسرطان مميت، فرب ديانة متفتحة انغلقت، ورب ديانة منغلقة انفتحت، من هنا تأتي الحاجة إلى تتابع النبوات، والضرورات الأبدية لإصلاح الاديان وتجديدها، فليس هناك ديانة تحتكر المحبة والحريات والحقوق واحترام كرامة الكائن البشري، وليس هناك تاريخ ديانة منزه من التعصب والعنف وانتهاك كرامة الإنسان). من مقالة عنوانها : "في الإيمان تتحدث الاديان لغة واحدة".

 

ومن خلال ما كتبه الدكتور الرفاعي، وماتحدث به في حوارات كثيرة أُجريت معه، كان منفتحا على منابع ومصادر معرفية وثقافية متعددة، محاولا تجديد كل ما يمر أمامه من فكر او تيار او اتجاه يطلع عليه، ولكن الشيء المهم والهدف الجوهري الذي يبحث عنه الرفاعي في مشروعه الفكري هو الإصلاح والتجديد والنهضة والحداثة الفكرية للمجتمع العربي الإسلامي المعاصر، وإذا كانت مرحلة الطهطاوي والافغاني ومحمد عبده والكواكبي والنائيني وهبة الدين الشهرستاني ومحمد جواد البلاغي تعد مراحل ممهدة للفكر الإصلاحي الديني الحديث، فإن الرفاعي مر بهذه المراحل المعرفية السابقة واجتازها بنجاح للوصول إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة التحاور الحضاري والانفتاح الثقافي والتواصل المعرفي، وهنا بتضح التقدم والتطور المعرفي للرفاعي. وحسب احد الباحثين: هو يتبنى طروحات فكرية وثقافية متجاوزة للايديولوجيا، والعمل على اعادة المقدس إلى مجاله الخاص، وانسنة الدين وعقلنته، من خلال ثقافة حوار الحضارات وتواصلها وتعارفها، ومن خلال تبني الحقوق والحريات الحديثة، التي تؤمن بقبول الآخر، وبالتسامح، والحق في الاختلاف، ومحاربة افكار التطرف والكراهية والاصولية العالمية والدينية المتشددة.

 

 في حوار مهم قرأته في كتاب (إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين) مع الرفاعي، وضع فيه أفكاره وما يريد ان يحققه من خلال طروحاته في فهمه للدين ومنهجه في قراءة نصوصه، كان الحوار شاملًا، وفيه سؤال مهم هو:كيف جرى التلاعب بوظيفة الدين في مجتمعاتنا الإسلامية؟.

 

فأجاب الرفاعي قائلا: (عندما يتحول الدين إلى مؤسسة، اي يتماسس ويتحول إلى واحدة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن هذه المؤسسات ترتبط عضويا بكل مايعيشه المجتمع من مصالح وملابسات وتناقضات. الايديولوجيات والمؤسسات في المجتمع مشتقة منه، ومعبرة عن كل مايضج فيه من اختلافات وصدامات ومصالح، و..... الخ، الجمعيات والاحزاب والمؤسسات محكومة بذلك، وهكذا القبائل والعشائر والتجمعات والنقابات المهنية، الدين عندما يتمأسس ويصير إحدى المؤسسات الايديولوحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنه ينخرط في هذه التناقضات والملابسات، في تاريخ الدين الإسلامي مثلا يميز الباحثون بين تجربتين لنبي الإسلام "ص" هما : المرحلة المكية من الدعوة، والمرحلة المدنية، يعرف المختصون طبيعة وخصائص كل مرحلة في العقيدة والتشريع فلا حاجة بنا إلى وصفهما، الخطير في تعاطينا مع المرحلتين مما له علاقة بالجواب على السؤال هو تغليب المرحلة الثانية على الأولى، بمعنى قراءة وتفسير التجربة النبوية والإسلامية برمتها في ضوء مناخات وملابسات المرحلة الأخيرة المدنية، حتى لتكاد تكون هي المرجع الوحيد والنهائي، الذي يختزل كل ما يمكن ان يقال عن الإسلام، ان اية محاولة للتنظير عن مهمة الإسلام في حياتنا المعاصرة تنطلق من مركزية المرحلة النبوية الثانية المدنية في إقصاء او تهميش للمرحلة المكية، وهي محاولة تخفي وراءها أغراضا مصلحية أكثر من كونها دينية، انها تكريس لما هو تاريخي على حساب ماهو جوهري في الدين).

 

تقول الروائية والمترجمة لطفية الدليمي في مقالة لها في صحيفة المدى عنوانها : د. عبد الجبار الرفاعي صوت الفكر التنويري في الدين: (من بين اهم السمات التي تميز اشتغال الدكتور الرفاعي: اختراقه لاطر المفاهيم والأفكار الموروثة، وتجاوزه لكثير من المحظورات في طرح تساؤلات خلخلت السكون في الفكر الديني، مثلما هو حرصه على فتح حوارات مستفيضة مع مفكرين مختلفي التوجهات الفكرية والمنطلقات، لاخضاع المزيد من الثوابت للتفكيك، بعد أن ظل الاقتراب منها محسوبا في باب المحظورات).

 

وكتب الأستاذ الدكتور حسن ناظم مقالة عنوانها: "مثقفونا.. عبد الجبار الرفاعي برزخ المتدين العقلاني" قال فيها: (بهدي من هذه القراءة التي تتوخى البرزخ، بحثت في زمان عبد الجبار الرفاعي ومكانه، انه الكاتب والمفكر والمترجم ومؤسس مركز دراسات فلسفة الدين، ومجلة قضايا إسلامية معاصرة، وفي البحث عن زمانه ومكانه لم يعد لدي مفارقة أيضا في القول ان عبد الجبار الرفاعي يجرب السكنى بين زمانين مثلما يجرب السكنى بين مكانين، يتوجه إلى برزخ زماني يقع بين الماضي والحاضر وبرزخ مكاني بين العراق وايران، لم يجعله الماضي سلفيا متجهما ولم يصيره الحاضر علمانيا منفلتا، ولم يمنحه العراق عمامة الفقيه ولا ايران جبته، بل استقر فيه من ماضي الدين التدين، واكتسب من حاضر العقل ومعارفه الحديثة العقلانية فصار "المتدين العقلاني"، ويا له من برزخ مشوب بالشك، شك الآخرين، من متدينين وغير متدينين، في صلاحيته، لأن المتدين العقلاني يواجه هاوية ويقف على حافة سقوط، فلا المتدينون يكفيهم تدينه او يرضيهم، ولا العقلانيون بمكتفين بعقلانيته او راضين بها، والسبب هو أن كلا الفريقين بعض تزمت، والتدين العقلاني نفي للتزمت بعضا وكلا).

 

الدكتور عبد الجبار الرفاعي يرى انه لا سبيل لجني معطيات النزعة الانسانية في الدين، الا بالخلاص من التفسيرات المتعسفة القمعية للنصوص، وتخطي المفاهيم والمقولات النمطية المغلقة في علم الكلام القديم. وانما يتحقق ذلك بفتح باب الاجتهاد في علم الكلام، ومحاولة بناء علم كلام عقلاني يواكب متطلبات المسلم الاعتقادية اليوم. وتحديث التفكير الكلامي يتطلب تساؤلات واستفهامات جديدة، ومراجعات نقدية للتراث الكلامي، تفضي الى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب. والسعي لترسيخ صورة للإله، تستوحي صفات: الرحمة والمحبة والسلام ، ونحوها من صفات الرحمن، وتستلهم مايتحلى به الله تعالى من صفاته الجمالية، واسمائه الحسنى، مثل: (الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام، المؤمن، العزيز، البارىء، المصور، الغفار، الوهاب، الرزاق، البصير، الحكم العدل، اللطيف، الحليم، الشكور، الحفيظ، الكريم، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، الحق، المحيي، البر، التواب، العفو، الغفور، الرؤوف، مالك الملك، الغني، النور،، الهادي، الرشيد، الصبور،...الخ).

 

 ويشدد الرفاعي على أنه يدعو إلى نمط تدين يلخصه بقوله: لا يعني التدين الذي ننشده اختزال الانسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية ، تتعالى على بشريته، وتصيره كائنا سماويا مجردا منسلخا عن عالمه الارضي، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل يعني هذا التدين انقاذ النزعة الانسانية في الدين، وايجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وامكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع ايقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز اخلاقية المحبة ، وتدريب المشاعر والاحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في  هذا العالم، والتواصل العضوي معها.

 

ويدعو الرفاعي إلى بناء مجتمع مدني متعدد، تسود حياته قيم العيش المشترك، والعمل على تكريس حق الاختلاف، والتثقيف على أن الوطن يتسع للجميع، وللجميع الحق في الحياة والعيش الكريم.

 

 

* د. باقر الكرباسي: أستاذ بجامعة الكوفة.