مرة جديدة يندفع لبنان باتجاه المجهول، جاء الانفجار الهائل الذي دمّر مرفأ بيروت، احد اهم دعائم الاقتصاد اللبناني، ومعه اجزاء واسعة من بيروت، ليضع البلد في قلب الانهيار، ويفجّر غضب الناس في الشوارع. فلقد بدا مرة جديدة أنّ الدولة في لبنان هيكل فارغ من اي مضمون، ينخره الصدأ والهريان وفاقد الثقة من قِبل اللبنانيين. لم يكن هنالك وزارات او مؤسسات قادرة اولاً على اعطاء تفسير مقنع لما حصل، وثانياً على تنفيذ اعمال إنقاذ طارئة. وعوضاً من الدولة تطوع مدنيون تضامنوا مع اخوانهم المتضررين.

في الواقع، ان صحّت التحقيقات الحاصلة حيال ما حصل، فإنّ الاتهام الفعلي لا بدّ ان يطال كامل منظومة عمل الدولة وليس فقط افراداً او مسؤولين محدّدين. هو نظام المزرعة المبني على الفساد والزبائنية السياسية والمنافع الشخصية والمحاصصة. ومن الواضح انّ الدولة انهارت في لبنان او تكاد، والانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت ألحق اضراراً بأجزاء واسعة من الاسواق والمرافق التجارية لبيروت، وهو ما قد يؤدي الى زيادة الانكماش الاقتصادي الى ما يقارب الـ 25% لهذا العام، وهي نسبة اعلى بكثير من التوقعات المتشائمة اصلاً لصندوق النقد الدولي والتي قدّرت بـ12%. فقبل الانفجار كانت حوالى 1000 مؤسسة سياحية قد أغلقت ابوابها بشكل نهائي.

 

وسُجّل انهيار الطبقة الوسطى، وخسرت الليرة اللبنانية 80% من قيمتها، فيما رزح نصف اللبنانيين تحت خطر الفقر للمرة الاولى في تاريخهم.


 
 

ولا حاجة للتكرار، بأنّ السبب الاول لكل ذلك هو الفساد الوقح لدى الطبقة السياسية الحاكمة. وخلال وجوده في بيروت كرّر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ما ردّدته العواصم الغربية على الدوام وبإلحاح: نفّذوا الاصلاحات لكي نستطيع تقديم المساعدات المالية للحكومة. داعياً لإصلاحات جوهرية وشاملة في كل القطاعات، وواضعاً الاولوية الملحّة لقطاع الكهرباء.

 

لكن وبعد كل ما حصل اضحى رأس مال السلطة السياسية في لبنان شبه معدوم. فكيف يمكن تطبيق هذه الاصلاحات، هذا اذا افترضنا انها راغبة بذلك؟

 

ماكرون، الذي عكس الإحباط واليأس الدولي من الفساد الواسع القائم في لبنان، اعلن بوضوح انّ المساعدات الطارئة لن تمرّ بالدولة اللبنانية بل مباشرة الى الناس. ومضيفاً، أنّ اعادة الاعمار يجب ان تحصل في ظل نظام سياسي جديد. لكنه بدا وكأنّه يطلب بعض الوقت قبل الشروع في الورشة الجديدة للنظام السياسي، وداعياً الى اطار دولي للتعاون.

 

ولا شك انّ الرئيس الفرنسي حقق نقاطاً ثمينة خلال زيارته المثيرة الى لبنان. فنجح في جمع الفرقاء اللبنانيين في قصر الصنوبر، وصافح واعترف وحاور كأول رئيس غربي، مسؤولاً كبيراً في «حزب الله»، في وقت تسعى فيه واشنطن لشدّ الخناق حول عنق «حزب الله».

 

وخطف ماكرون كل الاضواء حين جال في شارع الجميزة، وتجمهرت جموع الناس المنكوبين من حوله. وهي جولة لم يتجرأ اي مسؤول لبناني على القيام بها. صورة ماكرون في الجميزة وهو يشدّ من عزيمة الناس، جعلت مسؤولين لبنانيين وربما زعماء اوروبيين يشعرون بالغيرة. فأصداء الحوار العفوي الذي دار في الشارع المهدّم كانت كبيرة في فرنسا واوروبا. وهو ما جعل الرئيس الفرنسي يستفيد في الشوارع الفرنسية من جولته في شارع الجميزة.

 

وحتى المانيا، التي غالباً ما تتهمّ فرنسا بمرضى «جنون العظمة»، بدت معجبة بالحفاوة الشعبية التي لقيها ماكرون. واعتبرت انّ ماكرون نجح في الوقوف الى جانب السكان ضد النخب السياسية المكروهة. صحيح انّ لفرنسا طموحاً جيوسياسياً في الشرق الاوسط، وهو ما يميّزها عن بقية دول الاتحاد الاوروبي، الّا أنّها ايضاً صاحبة تأثير كبير في اوروبا، وماكرون تحدث بإسم اوروبا في بيروت.

 

لكن السؤال الاوروبي كان: كيف لنا ان نعمل على المساعدة من دون ان تستفيد هذه الطبقة السياسية التي نهبت الدولة ولا تزال منذ عقود عدة وحتى الآن؟

 

وهو السؤال الذي طرحه ايضاً جوناثان شانزر، وهو نائب الرئيس الاول للأبحاث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات ومقرّها واشنطن، والذي قال: هنالك سؤال حول مدى مساهمتنا في مساعدة اللبنانيين، ولكن من دون استفادة حكم اللصوص، ومن دون ان نصبح نحن ايضاً جزءاً من المشكلة من دون ارادتنا. اي بتحقيق آلية تحقق التوازن بين دعم الشارع والناس، واستهداف الطبقة الفاسدة والفاسدين.


 
 

بيد انّ ماكرون، الذي نسّق زيارته الطارئة الى لبنان مع الرئيس الاميركي قبل وصوله الى بيروت، عاد وتشاور معه بعد مغادرته، وهو ما انتج مرونة اميركية ومشاركة في المؤتمر الدولي الذي عُقد أمس. فالصورة المروعة التي لمسها ماكرون بنفسه حدت به الى اقناع دونالد ترامب بأنّ انهيار لبنان اصبح حقيقة قائمة، وأنّ لهذا الانهيار عواقب وخيمة في منطقة تنهار دولها الواحدة تلو الاخرى. وبالتالي يجب منع لبنان من الانزلاق كي لا يصبح سوريا او يمن اخرى. وبالتالي تعريض المنطقة لموجة جديدة من النازحين من غير الممكن السيطرة عليها.

 

وبالتالي، فإنّ الهدف المباشر للمؤتمر هو تأمين المساعدات الطارئة والملحة للبنان بشروط تسمح بوصولها مباشرة الى المواطنين.

 

وكذلك العمل كأولوية لتدعيم المباني المتضررة والمساعدات الطبية الطارئة والمساعدات الغذائية وترميم المستشفيات والمدارس. والاهم، الاشتراط بعدم كتابة «شيك» على بياض للسلطة اللبنانية. كما المهم الاحتفاظ باستقرار نسبي للبنان، وهو مصلحة امنية ووطنية رئيسية للولايات المتحدة الاميركية واوروبا.

 

وتقرّ واشنطن بأنّ اللبنانيين ضاقوا ذرعاً بالفساد السياسي، فيما الاقتصاد انهار. اضف الى ذلك، اثقال استضافة مليون ونصف مليون نازح سوري، وتبعات ازمة كورونا.

 

ويُقلق فرنسا ما اورده آخر استطلاع حول شعور النازحين السوريين بالأمان في اوروبا بنسبة 97% فيما بلغت النسبة في تركيا 34%، وفي لبنان فقط 7% ، وهو ما يعني انّ اي تراجع لقدرة القوى الامنية اللبنانية سيدفع بموجات هائلة من النازحين السوريين الى اوروبا.

 

لكن ثمة معطيات تؤشر الى مرونة ما في الكواليس بين واشنطن و«حزب الله»، والدليل مسألتان. الاولى: عدم اعتراض واشنطن على اللقاء بين ماكرون والنائب محمد رعد، والذي حصل على ارض فرنسية، على اعتبار انّ السفارة الفرنسية هي ارض فرنسية.

 

والثانية: وهو ما نُقل عن الرئيس نبيه بري، حول انّ المفاوضات لترسيم الحدود البحرية شارفت على نهايتها.

 

لذلك، ارسلت واشنطن الى بيروت فور انتهاء اعمال المؤتمر الدولي لمساعدة لبنان القائم بأعمال مدير الوكالة الاميركية للتنمية الدولية USAID جون برسا، وسيصل منتصف هذا الاسبوع الرجل الثالث في وزارة الخارجية الاميركية السفير دايفيد هيل، في مهمة خاصة تتعلق على الارجح بموضوع ترسيم الحدود البحرية. ومجيء هيل بدلاً من دايفيد شينكر، كما كان متوقعاً، له دلالاته الكبيرة. فصحيح أنّ هيل هو رئيس شينكر في التراتبية الادارية، إلا أنّ هنالك ما هو أهم. فشينكر صاحب أسلوب هجومي، فيما هيل معروف عنه بأنّه ليس صدامياً، وهو لا يحب الارتجال في مواقفه، بل يستند الى مواقف مدروسة بعناية. ما يعني أنّ ثمة بوادر ايجابية لحركة التفاهمات الناشطة في الكواليس، والتي يقف عند احد اطرافها «حزب الله».

 

وسبق زيارة هيل ايضاً، صدور تغريدتين عن السفارة الاميركية في بيروت، جاءتا اقرب الى اسلوب هيل الديبلوماسي منه الى اسلوب السفيرة دوروثي شيا الهجومي، مع الاشارة الى غياب مواقف وتصاريح شيا منذ قضية القاضي محمد مازح.

 

البعض اعتبر انّ توقيت صدور بيان السفارة الاميركية لم يكن موفقاً، والاسلوب لم يكن متلائماً مع الظروف. لكن الواضح أنّ ثمة حركة قوية في الكواليس الديبلوماسية تدفع باتجاه خفض سقف التوتر في لبنان، خصوصاً وانّ مأزق استقالة الحكومة قد يدفع باتجاه الفراغ او تصريف الاعمال. فيما تطلب العواصم الغربية بعض الوقت، قبل الدخول في ورشة النظام السياسي الجديد، والذهاب بعدها الى انتخابات نيابية مبكرة، يبدو انّها اصبحت امراً واقعاً في ايار 2021، تماماً كما هو حاصل في العراق.