هل تحضر باريس لدفن لبنان؟
 
شكّلت زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إنقلاباً على المبادئ التاريخية للسياسة الخارجية الفرنسية وارتداداً عن دور "الأم الحنون" للبنان، وتخلياً عن موقع الدولة العظمى على المستوى الدولي والإقليمي، لأنّها خلت من كلّ مؤشّرات التعاطي العالي المستوى الذي يرافق حركة الدول الكبرى، كما خلت من النتائج الملموسة بعد أن تحوّلت إلى مناسبة لتقديم "العطاءات" للمدارس الكاثوليكية في خطوة أعادت الذاكرة إلى زمن المتصرفية والقناصل.
 
 
 
إرتدادٌ عن تاريخية المسار الفرنسي
 
نفضت فرنسا – ماكرون من علاقات فرنسا التاريخية بلبنان، والتي بلغت ذروتها وأفضل أحوالها مع الرئيس الراحل جاك شيراك الذي لا يمكن كتابة تاريخ لبنان في العقد الأخير من القرن العشرين دون ذكر اسمه ودوره خلال ولايتيه الرئاسيتين بين عامي 1995 و2007. فلبنان كان محلّ عناية مركّزة، مما سمح للدبلوماسية "الفرنسية" من تحقيق إنجازات كثيرة وفعلية، أعطت للبنان دفعاً إيجابياً للتقدّم، وأثبتت براعة ومهارة الدبلوماسية الفرنسية في عهد شيراك..
 
 
كان شيراك صديق لبنان والداعم المستمرّ له من خلال ترؤسه الاجتماعات الدولية لدعمه، وكان يطالب الدول المانحة بالدعم الأقصى، وعندما كان يشعر أن إحداها تتلكّأ كان يتدخل ويطالبها بالأفضل، وصولاً لاقتراحه بنشر صواريخ تحمي لبنان وتمنع استباحة الأجواء اللبنانية من العدوّ الإسرائيلي، إلاّ أنّ المشروع رفضه آنذاك أعداءُ فرنسا السابقون وأصدقاؤها الحاليون، أي إيران و"حزب الله".
 
 
إنحدر السلوكُ الفرنسي من دبلوماسية جاك شيراك العملاقة، إلى تفاخر وزير الخارجية لودريان بدعم باريس المدارسَ المسيحية بـ١٥ مليون يورو، لهذا العام فقط كما هو معلن، بذريعة معالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بلبنان، وهذا في الحقيقة دعمٌ للّغة الفرنسية ليس أكثر، بعد أن بدأت تتلاشى تدريجياً بسبب ضعف الإدارة الفرنسية، فلطالما ارتبطت الفرنكوفونية بقوة السياسة الخارجية أو تراجعها.
 
 
يبدو أن السّفارة الفرنسية في بيروت لم تبلغ وزير خارجيتها أنّ إيران تدفع سنوياً عشرات الملايين من الدولارات لدعم المدارس التابعة لـ"حزب الله"، وتحتلّ فيها اللغةُ الايرانية المرتبة الأولى، كما أنّ لودريان يبدو غير مدركٍ لدعم تركيا بملايين الدولارات سنوياً لدعم اللغة التركية إضافة الى المنح التعليمية الجامعية لعدد كبير من اللبنانيين، وخصوصا في شمال لبنان.
 
 
في المقابل، يبدو أنّ "القنصل الإيراني" المتحكّم بـ"المتصرفيّة" في هذه المرحلة، بات يفرض على الموفد الفرنسي إسترضاءه على حساب القرارات الدولية الملزمة وأهمّها القرار 1559، فتأمين عقدٍ نفطيّ لشركة توتال قد يكون أهمّ من لبنان ومسيحييه، وأهمّ من كل العلاقات التاريخية التي تربط فرنسا بلبنان.
 
وبينما ترقّب المتابعون إحتمال حصول لقاء بين لودريان وقيادة "حزب الله"، فإنّ الحسابات الدولية حالت دون القيام بهذه الخطوة التي استعاض عنها الوزير الفرنسي باختيار مركز مؤسّسة عامل في الضاحية الجنوبية (حارة حريك) معقل "حزب الله"، من دون كلّ المراكز الأخرى للمؤسسة، في رسالة استرضاء رمزية واضحة لطهران.
 
 
 
إضفاء الشرعية على حكومة "حزب الله"
 
إستعمل لودريان لهجة جديدة ربّما تكون مناسبة لاسترضاء الرأي العام اللبناني في مخاطبة السلطة الحاكمة، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل أنّ حكومته عملت على إضفاء الشرعية على حكم "حزب الله" وائتلافه المسيطر على الأغلبيتين النيابية والوزارية، تحت ذريعة أنّها منبثقة عن انتخابات نيابية، لكنّها تجاهلت أنّها فشلت في إدارة الأزمة كما أنّ ثورة 17 تشرين الأول 2019 أطاحت بالحكومة الآتية من تلك الأغلبية، ثم ما لبث "حزب الله" أن التفّ عليها بحكومة "تكنوقراط" تجهل ألف باء السياسة والاقتصاد والأمن وتغرق في التبعيّة التامة للأوامر الصادرة من الضاحية.
 
 
 
الرؤية المنحرفة: تغافل عن مخاطر تحالف السلاح والفساد
 
بدأ انحراف الزيارة الفرنسية في حصر الكارثة اللبنانية بجريمة الفساد وتجاهل الإشكالية الأعظم وهي سلاح "حزب الله"، وتصوير أنّ الإصلاحات المالية والإدارية كافية لانتشال وطن الأرز من الانهيار الذي وصل إليه، في تجاهل تامّ لحقيقة أنّه لا يمكن إنجاز أيّ إصلاح بوجود هذا السلاح الذي رعى الفساد وتحالف مع القائمين به في إطار تسويات متعاقبة، كرّست معادلة سكوت قوى التسوية على السلاح مقابل سكوت "حزب الله" على فسادها.
فهل يمكن وقفُ التّهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، طالما يحتفظ "حزب الله" بالسيطرة الفعلية على المعابر، ويمنع حتى تركيب أجهزة الكشف في المرفأ ومطار الشهيد رفيق الحريري الدولي؟ 
 
 
تجاهل الوزير لودريان حقيقة إنشاء "حزب الله"، منذ سنواتٍ طويلة، اقتصاداً موازياً قائماً على التهريب والتحكّم بالواردات والصادرات، من خلال ما يسمّيه "خطّ المقاومة" والذي بات يُدخل كلّ أنواع البضائع من دون دفع ضرائب عليها، وحوّلها إلى تجارة واسعة استقطبت كبار التجار من جميع المناطق والمشارب، فتهاوى الملتزمون بالقانون والذين يؤدّون الضرائب للدولة تحت وطأة الخسائر وانعدام فرص المنافسة، وبات اقتصاد الحزب الموازي هو المسيطر مُوقِعاً خسائر هائلة بخزينة الدولة تتجاوز كلفته المليار دولار سنوياً حسب إخبارٍ قضائي تقدّم به النائب آدي أبي اللّمع.
 
 
الحقيقة التي أراد لودريان تجاهلها هي أنّه لا حلّ لكارثة الفساد طالما يستمرّ السلاح مسيطراً على القرار الاستراتيجي في لبنان، لأنّ أيّ مواجهة للفساد ستؤثـّر سلباً على وجود حلفاء "حزب الله" في السلطة، وتـُزعزع تماسك التركيبة الحاكمة، وطالما هذه المعادلة قائمة، فإنّ الدولة بحكم المعلّقة والمعطّلة إلى أمدٍ غير محدود.
 
 
 
تواطؤ على النموذج اللبناني
 
في زيارة لودريان برزت نزعةٌ خطرة أخرى، تمثّلت في تلاقي نظرته للأزمة الاقتصادية مع نظرة "حزب الله" لجهة معاداة النموذج الاقتصادي الحرّ، كما أنه كان مبعوثاً لصندوق النقد الدولي اكثر ممّا هو مبعوث "دولة عظمى". فحديثه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، كان حول ضرورة اعتماد قانون الكابيتال كونترول، ومعظم كلامه كان داعماً لما تطالب به جوقة المستشارين وصندوق النقد الدولي، الساعين الى إعلان افلاس لبنان وإفلاس المصارف وإنهاء الاقتصاد الحر وسرقة أموال المودعين وتغيير وجه لبنان الثقافي والحضاري، كما تطالب به حكومة "حزب الله" والتي يديرها حسان دياب استجابة للمصالح الإيرانية، ولو بدا ذلك في الشكل متناقضاً مع شعارات الدبلوماسية الفرنسية.
 
 
هذا الموقف يجعل زيارة لودريان للبطريرك بشارة بطرس الراعي في الديمان خطوةً لرفع العتب، حيث كان موقفه الضعيف من تبني مشروع بكركي فيما خص الحياد الذي يطالب به البطريرك الراعي لإنقاذ لبنان، وما هروبه من إجابة الإعلاميين عن هيمنة "حزب الله" على لبنان سوى دليل على هذا التهاون.
 
 
 
أين موقف لودريان من القرارات الدولية؟
 
يضيف المراقبون إنّ الأولوية عند فرنسا ينبغي أن تكون الحرص على تطبيق القرارات الدولية وهي المدخل الأساس لإنقاذ الوضع الاقتصادي في لبنان، فتطبيق القرار ١٥٥٩ وحصر السلاح بـِيـَدِ الجيش اللبناني وسحب سلاح الميليشيات، كما يطالب به أصلاً الدستورُ اللبناني، لأنّ هذا سيوازيه تدفـّق الودائع والدعم بالمليارات لاقتصاد لبنان من الدول العربية وتحديداً الخليجية، وهي التي لم تتردّد يوماً في الوقوف الى جانب لبنان بدون مقولة "ساعدونا كي نساعدكم"، والتجارب السابقة خير دليل على ما قامت به الدول الخليجية لدعم لبنان، حتى عندما دُمّرت الضاحية ومناطق الجنوب، جرت إعادة إعمارها بأموالٍ خليجية.
 
 
 
هل تحضّر باريس لدفن لبنان؟
 
ذهب لبنانيون كثر إلى تشبيه عودة دعم المدارس الأجنبية في لبنان بمرحلة المتصرفيّة وزمن القناصل. والواقع أنّ الدعم الفرنسيّ بهذه الصيغة، يعني تسليم فرنسا بسقوط الدولة والتعامل مع لبنان كمقاطعاتٍ وإماراتٍ محكومة بالأمر الواقع، بعيداً عن مواقفها الراسخة في دعم الكيان اللبناني منذ إعلانها ولادة دولة لبنان الكبير الذي يشارف على بلوغ مئويته الأولى، بينما تشهدُ "أمُّه الحنون"، على عملية خنقه بحبال الدويلة وتربِّتُ على كتفيها، وتحضّر مراسم دفنه استعداداً لاستقبال مولودٍ مشوّه مليء بصفات الحقد والدموية والتدمير؟!