كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن ان اسباب الازمة الاقتصادية والمالية الراهنة مردها عدم استقلالية السياسة النقدية للبنك المركزي عن السياسة المالية للدولة، وان انعدام هذه الاستقلالية توصل الامور الى ما وصلت اليه من انهيار وتدهور، ومع ذلك ثمة من يرى ان هناك إستقلالية بالمطلق فرضتها التجارب الدولية وأصبح منصوصا عليها في القوانين حيث أنه من المعروف أن الحكومات في الأنظمة التي لا إستقلالية للمصارف المركزية فيها، تعمد إلى طبع العملة بشكل كارثي. هذا الطبع هو بمثابة ضريبة غير مرئية على المواطن، وبالتالي يتمّ تحريم مثل هذه الممارسات على الحكومات عبر قوانين مثل قانون النقد والتسليف الذي يُعطي المصرف المركزي الحريّة الكاملة بوضع سياسته النقدية، يقول الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور جاسم عجاقة، لـ "لبنان24" ؛إلا أنه من المعروف أيضًا أنه يتوجّب أن يكون هناك تكامل بين السياستين المالية والنقدية نظرًا إلى أنهما تُشكّلان ما يُسمّى بالسياسة الإقتصادية التي ترسم وتُدير التوجهات الإقتصادية والمالية للدول.

 

 

بيد ان المُشكلة الأساسية في لبنان، بحسب عجاقة، تتمثل بغياب السياسات المالية للحكومات على مرّ السنين، وبالتالي كانت السياسة النقدية هي الوحيدة الموجودة وتمثّلت بثبات نقدي على مرّ عقود. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة في تثبيت سعر الصرف وسعر الفائدة، إلا أنها كانت عرجاء بحكم أن صلاحيات المصرف المركزي لا تسمح له بقيادة سياسات مالية، لان اقرار مشروع الموازنة وتنفيذها من صلاحيات الحكومة.

 

وليس بعيدا فإن حكومة الرئيس حسان دياب اهملت البنك المركزي والسياسة النقدية وقامت بوضع خطّة "إنقاذية" من دون التواصل مع مصرف لبنان، الامر الذي أفقد الإقتصاد توازنه وأفقد الخطّة مصداقيتها، حيث ظهرت الحكومة بموقع من يريد السيطرة على السياسة النقدية، وهو ما يُعارض قانون النقد والتسليف و المعايير الدولية ايضا. وهذا الأمر لن يمرّ في الأسواق المالية بأي شكل من الأشكال لأن الحكومة وضعت في خطتها سياسة نقدية تلائمها ومبنية على طبع العملة.

 


ومع ذلك، يمكن القول إن الإطار الإقتصادي والمالي والسياسي مُتشابه بين ما حصل في ثمانينات القرن الماضي واليوم، لكن المُشكلة الراهنة سياسية بإمتياز ، يقول عجاقة؛ ويتوجّب التذكير أنه قبل فرض العقوبات على بنك "جمّال تراست" ، كانت الأوضاع النقدية ثابتة رغم التردّي الحاصل في المالية العامة.

 

 


لا شك ان هناك حصارا فعليا على قدوم الدولار إلى لبنان، لكن أيضًا هناك مُشكلة تتعلّق بهيكلة الإقتصاد الذي يتعلّق بالدولار بشكل كبير، يؤكد عجاقة. فالخطوات الخاطئة التي قامت بها الحكومة إن من ناحية وقف دفع سندات اليوروبوندز وعدم التفاوض مع الدائنين أو من ناحية خفض سعر صرف الليرة في الخطة الحكومية، أدت إلى ضرب الليرة. وتزامن هذا الأمر مع منظومة فاسدة من التجّار والمضاربين على الليرة ساهمت بشكل اساس في ارتفاع التضخّم إلى مستويات عالية. لكن الفرق الأساسي يبقى في قدرة المصرف المركزي على التدخّل لضخّ الدولار، وهو ما لم يتوفّر في ثمانينات القرن الماضي. إلا أن غياب خطّة نهوض مُقنعة للأسواق تمنع هذا الأمر بحكم أن أي ضخّ للدولارات سيتبخّر فورًا في الأسواق!

 

 

ولا ريب في القول ان الدولة التي لم يكن لديها أية سياسيات إقتصادية حوّلت الإقتصاد اللبناني إلى إقتصاد ريعي، وبالتالي كان هناك طلب كبير على الإستيراد، وبالتالي على الدولار. لكن حاجة الدولة للدولار أخذت بالتعاظم مع إستيرادها للفيول والخدمات والمشاريع التي قامت بها. وبما أن مدخول الدولة كان بالدرجة الأولى بالليرة اللبنانية، أخذت بالإستدانة بالدولار لسدّ حاجاتها. وتطوّرت الأمور سريعًا حيث سجّل الدين العام بالدولار إرتفاعًا كبيرًا إلى أن وصل إلى 34 مليار دولار أميركي من أصل 91,6 مليار دولار دين عام، علما ان المنطق كان يفرض على الحكومات أن تعمد إلى سدّ حاجاتها من خلال الضرائب ولكن بشرط خفض عجزها وطلبها على الدولار، إلا أن هذا لم يحصل وبالتالي زادت الإستدانة بالدولار إلى أن وصلنا إلى مجموعة من الإستحقاقات التي يستحق فيها رأس المال في 2020 و2021. يؤكد عجاقة. وبالتالي لا يمكن الحديث عن أيجابيات للإستدانة بالعملة الصعبة إلا في حال الإستثمار! وهذا ليس حال لبنان الذي كان يستدين بالعملة الصعبة للإنفاق الجاري. وبالتالي يُمكن وصف هذا الأمر بالجنون الذي كان يتكرّر في كل مرّة يتمّ إصدار سندات خزينة بالعملة الأميركية. ومن هنا فإن السلبيات عديدة وعلى رأسها التعثر الذي وصلنا إليه اليوم، ولكن الأهم يبقى حال التضخّم المُفرط، وبالتالي التفقير الممنهج للشعب الذي يرى مدخراته بالعملة اللبنانية تتبخر.

 

 

ان الحلول كانت موجودة قبل تعثّر الدولة وإعلان 7 آذار! فالوقت اليوم لم يعد يسمح بذلك مما يعني ضرورة التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على غطاء قانوني يمنع الملاحقة القانونية لأصول الدولة اللبنانية يقول عجاقة، هذا فضلا عن أن ضخّ الأموال بهدف إستعادة الملاءة المالية والإستمرار في سدّ الإستحقاقات يفرض وجود برنامج إصلاحي جدّي يسمح للبنان الذي يملم قدرات كبيرة بإستعادة عافيته. لكن وتيرة الإصلاحات لا تُبشر بإستعادة هذه العافية قريبًا

 

 

واذا كانت الخطة  الحكومية هي خطّة كارثية على الإقتصاد وعلى القطاع المصرفي، فهذه الخطّة تنص على تصفير رأس مال المصارف عملًا بتقنية الأكاورديون. هذا الأمر كارثي ليس على المصارف فحسب بل على الإقتصاد حيث أن القطاع المصرفي هو الممول الأول للإقتصاد وبالتالي من أين ستستدين الناس للقيام بمشاريع أو الإستهلاك. وإذا ما أخذنا إقتراح الحكومة بإعطاء رخص لمصارف جديدة برأسمال 200 مليون دولار للمصرف الواحد، فإن هذا الطرح لا يُوحي بالثقة مع تخلّي الدولة عن قطاع مصرفي بقيمة 20 مليار دولار أميركي واستبداله بقطاع لا يساوي إلا مليار دولار أميركي!

 

 

وسط ما تقدم فإن النظرية الإقتصادية واضحة على هذا الصعيد: "رأسمال المصرف هدفه حماية الودائع"! إذًا المسّ برأسمال المصارف هو مسّ بالودائع شئنا أم أبينا. بالطبع هذا القول لن يُرضي الكثيرين، يقول عجاقة، لكن العلم يبقى أقوى من الرغبات الشخصية. والمحافظة على رأسمال المصارف وزيادته بنسبة 20% كما طلب مصرف لبنان في تعميمه هو أمر ضروري لإنقاذ هذا القطاع من المخاطر المُتربصّة به.