لا تمرّ جلسة من جلسات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي من دون ان تسجّل «المفارقات الغريبة». فبعد تجميد اللقاءات بسبب عدم التوافق على حجم الخسائر المالية، ادّى غياب قانون «الكابيتال الكونترول» قبله النتيجة عينها. ولم تقف الامور عند هذا الحدّ، فقد شهد اللقاء الـ17 مفارقة كبيرة، عندما ردّ وزير الطاقة ريمون غجر على سؤال لوفد الصندوق، بالقول: «لا نعرف كيف سنفوتر». وعليه، من أنقذه؟ وما الذي جرى؟
 
 
اثبتت التجارب التي عاشتها جولات المفاوضات الـ17 بين لبنان وصندوق النقد الدولي التي انطلقت في آذار الماضي، وجود كثير من المفاجآت غير المحسوبة لدى وفد الصندوق وبعض أعضاء الوفد اللبناني. فرغم معرفة الصندوق العميقة بواقع الاقتصاد اللبناني من جوانبه المالية والنقدية والإدارية وما يتصل في شأن الموازنات العامة، التي غابت لعقد وعامين قبل اعادة وضعها عام 2017 من دون قطع الحساب للسنوات التي خلت، فوجئ بأكثر من صدمة، الى درجة عبّر فيها احدهم عن «اليأس المبكر» في إمكان الوصول الى صيغة تُخرج لبنان من المأزق الى مرحلة التفاهمات على ما يجب القيام به لسلوك درب الخلاص، وما يفرضه من قرارات صعبة ومؤلمة تحتاج الى اجماع لبناني صعب المنال.
 
وعلى هامش الجولات الأولى من المفاوضات، وجّه وفد الصندوق، مباشرة وعبر اكثر من قناة مالية وديبلوماسية وسياسية، رسائل تحذير الى الجانب اللبناني، اجمعت على ضرورة توحيد المواقف، لأنّها من بديهيات المخارج والحلول طالما اقرّ الجميع، بعد نيل الإذن من المعارضين، التوجّه الى صندوق النقد، بعدما سُدّت السبل في اتجاه المخارج الأخرى. وعززت هذا التوجّه، القطيعة الديبلوماسية والمالية والنقدية التي وصلت اليها الحكومة واركان السلطة في علاقاتهم مع الدول والحكومات والمؤسسات المانحة، على وقع مسلسل التصنيفات السلبية المتلاحقة للبنان، التي وضعتها الشركات الدولية المختصة، وبلغت درجات ما دون اي قياس مرصود في العالم، بعد تعثر لبنان في الإيفاء بما يترتب عليه لمالكي سندات «اليوروبوندز» من اللبنانيين والاجانب أشخاصاً ومؤسسات في 9 آذار الماضي.
 
وفي موازاة الانقسامات السياسية التي رافقت التغيير الحكومي بعد انتفاضة 17 تشرين الأول العام الماضي، والتعثر في تشكيل حكومة مستقلة وحيادية طالب بها المجتمع الدولي واللبنانيون المنتفضون، تعزّزت الشروخ بين أبناء الصف الواحد. ومن يعتقد انّها لم تنعكس سلباً على موقف لبنان في مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي لا يفقه «الف باء» التعاطي مع مثل هذه الحالات. وخصوصاً انّ ما ارتُكب من أخطاء، وضعت لبنان في أسوأ موقف في تعاطيه مع هذه المؤسسة الدولية، التي ساهم في إنشائها قبل 75 عاماً، وكان يحظى بنسبة عالية من الصدقية تجاهها. فهو على رغم مما شهده من انتكاسات سياسية وامنية، بقي حاضراً في المنتديات المالية العالمية ومُمثلاً خير تمثيل، من دون ان يرقى الى سلوكه المالي والنقدي اي شك قبل السنوات الأخيرة.
 
على هذه الأسس بما تحمله من نقاط ضعف، يتطلع المراقبون الى المراحل الصعبة التي على لبنان عبورها قريباً. فالصندوق رسم الخطوط العريضة لهذه المراحل، وما على اللبنانيين سوى ان يقوموا بما عليهم من إجراءات بالإجماع. فتجربة حضور الوفد اللبناني امام وفد الصندوق، عندما كان يناقش مصير قانون «الكابيتال كونترول» المطلوب بإلحاح، تجدّدت مرة أخرى مع طرح موضوع احصاء خسائر القطاع المصرفي، بفوارق تصل الى النصف تقريباً، بعدما أُحصي الفارق ما يقارب 134 الف مليار ليرة لبنانية.
 
ففي الحالة الأولى كان الصندوق الحاضر في دوائر الحكومة اللبنانية قبل مرؤوسيها، يعرف انّ قانون «الكابيتال كونترول» مطلوب لتنظيم السحوبات المالية وتخفيف المواجهات القضائية المحتملة بين المصارف وزبائنها المودعين، وانّ هناك اكثر من مشروع قانون. فإلى مشروع وزير المال وآخر لمصرف لبنان، كان ترجمه بـ «التعاميم التنفيذية»، هناك آخر نتج من تفاهم «حزب الله» و»الحزب الديموقراطي» اللبناني، تقدّم به الوزيران عماد حب الله ورمزي المشرفية، وآخر سُمّي مشروع دياب - نجم، الذي اعدّته وزيرة العدل ماري كلود نجم وفريق رئيس الحكومة، والتي جُمّدت كلها بموقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي دعا صراحة الى «نسيان القانون» تحت شعار «حماية المودعين». وكما في «الكابيتال كونترول»، بقيت ورقة مصرف لبنان المركزي وجمعية المصارف في شأن خسائر القطاع مختلفة تماماً عن ورقة الحكومة، قبل ان تنتج لجنة المال والموازنة ورقة على خلفية المهمة التي كُلّفت بها «لتقصّي الحقائق» المالية فزادت في الطين بلّة. وإن كانت الحكومة تجهد لانتزاع موافقة المصارف وحاكم مصرف لبنان على مضمون ورقتها لاحتساب الخسائر من دون نتيجة ايجابية، فما زالت تتجاهل أنّ لدى صندوق النقد إحصاءً آخر ساهمت فيه مؤسسة «لازارد»، التي ظهر أنّها كانت على «تنسيق» معه في «مهمة غامضة» حتى اليوم، خارج هذه الأوراق جميعاً، وان كان الاقرب الى ارقام الحكومة.
 
هذا غيض من فيض ما جرى حتى الامس القريب، الى ان وقعت تجربة أخرى في الاجتماع السابع عشر بين الصندوق والوفد اللبناني الجمعة الماضي، والذي خُصّص لقطاع الكهرباء، ففوجئ وفد الصندوق وبعض اعضاء الوفد اللبناني بطرح جديد لوزير الطاقة ريمون غجر، الذي حاول تسويق قرار تشكيل مجلس ادارة مؤسسة كهرباء لبنان، معدّداً المراحل التي عبرها لاقتراح الأسماء، بتفاصيل لا يحتاجها أحد. وبعدما ظهر وكأنّه يتحدث عن انجاز يستحق تقدير الصندوق، تبلّغ من أحد أعضاء الوفد عدم وجود مثل «هذه الشهادة»، مقلّلاً من اهمية هذه الخطوة ما دام أنّها لم تصل بعد إلى مرحلة تشكيل الهيئة الناظمة المستقلة.
 
ولمّا سأله احد أعضاء الوفد عن الجديد المُنجز في قطاع الإنتاج، أجاب غجر بما يوحي بانتهاء الحديث عن مرحلتي الإنتاج المؤقت والطويل المدى، كما قالت خطة سلفه الوزيرة ندى البستاني، شارحاً المراحل التي لم تنتهِ بعد من مفاوضاته مع الشركات الكبرى، والتي فوّضه مجلس الوزراء القيام بها لبناء المعامل، غافلاً الإستشارة المطلوبة من «دائرة المناقصات العامة» في التفتيش المركزي لمزيد من الشفافية المطلوبة، وهو ما فاجأ بعض أعضاء الوفد اللبناني المفاوض ايضاً.
 
ولما عبرت هذه العناوين فوجئ وفد الصندوق بجواب الوزير عندما سأله عن الموعد المحتمل لتعديل تعرفة الطاقة الكهربائية على طريق التوازن بين الكلفة والإنتاج، لافتاً الى انّه «لا يعرف كيف سيفوتر» وما هي «القواعد التي ستُعتمد لتحديد «التعرفة الجديدة» للكيلو وات، وهو ما دفع أحد أعضاء الوفد اللبناني الى حسم الجدل سريعاً، بالتأكيد على انّ هناك «جامعة خاصة» ستتولّى هذه المهمة ومعاونته في هذه المعضلة، في اعتبارها «درساً مستقلاً» امام طلابها، فعلّق وزير المال مرحّباً بالجواب.
 
لم تنتهِ فصول المفاجآت عند هذه المفارقات، ففي نهاية اللقاء طلب لبنان تحديد موعد لعقد إجتماع آخر للوفدين في الأسبوع الجاري للبحث في صيغة قانون «الكابيتال كونترول»، على اساس وجود «مسودة» أعدّها وزير المال، كان قد سحبها بناء لرغبة «مرجعيته»، فعبّر الوفد الدولي عن استعداده متى كانت جاهزة كقانون. وفي اعتقاد الوفد اللبناني، انّ الصندوق لا يعرف أن ليس هناك من قانون بعد، وانّ لجنة المال والموازنة النيابية بدأت امس درس مسودة، قيل انّ «التيار الوطني الحر» وحركة «أمل» قد وضعاها، لتُضاف الى بقية المشاريع المطروحة للبحث، قبل البت نهائياً بها في موعد لا يستطيع أحد تقديره.