على مجلس القضاء الأعلى أن يتحرّى من الآن وصاعداً مواقع الخلَل في هذا الجسم المُقدّس، لئلاّ تُصيبه هذه الطبقة السياسية الفاسدة بعدوى الفساد والغباء والاستهتار والإرتهان.
 

كُنتُ قد آثرتُ أن لا أتطرّق للزوبعة التي أحدثها قرار القاضي محمد مازح منذ أيام بمنع وسائل الإعلام من نشر تصريحات وأقوال سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية تحت طائلة المساءلة القانونية والغرامة المالية، فيكفي حضرة القاضي محمد مازح ما أصابه من خزيٍ وخيبة، وخسارته منصبه القضائي، إلاّ أنّ ما أثار حفيظتي وغيظي تغريدته التي أطلقها بعد استقالته، مُدّعياً بأنّه لا يُبالي إن وقعت العقوبة عليه، أو وقع على العقوبة، مُحاولاً أن يتشبّه بسيرة سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وولده عليّ الأكبر( أول شهداء واقعة كربلاء) عندما قال: لا نبالي إن وقع الموتُ علينا أو وقعنا على الموت.


كشف القاضي السابق مازح عن جهلٍ وغباء عندما حاول التّشبّه بالإمام الحسين بن علي واقتفاء أقواله، ولم يفطن إلى أنّ الإمام الحسين في محنة كربلاء كان يُكنّي عن الموت بالتّضحية والفداء في سبيل المبدأ والإيمان وإصلاح ما فسُد من أحوال أُمّة جدّه، كما قال، والموت في سبيل ذلك أشرف له وأكرم من التّسليم أو الفرار، والشجاعة والإقدام أفضل بما لا يُقاس بالجُبن والهزيمة، فهذا عمرو بن العاص وقد احتار في أمر معاوية بن أبي سفيان قائلاً: والله ما أدري يا أمير المؤمنين، أشُجاعٌ أنت أم جبان؟ فقال معاوية:


شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ


وإن لم تكن لي فرصةٌ فجبانُ.

إقرأ أيضا :  حكومة دياب التقنوقراطية.. تضييع الوقت المُصاحب للفشل الذّريع

 

والعربُ تقول: الشجاعة وقاية والجُبن مقتلة،  واعتبر من ذلك أنّ من يُقتلُ مُدبراً أكثر ممّن يُقتلُ مُقبلاً، وكانوا يتمادحون بالموت قعْصاً (مات قعصاً: أي أصابته ضربةٌ أو رمية فمات مكانه)، ويتهاجون بالموت على الفراش، ويقولون فيه" فلانٌ مات حتف أنفه"، لهذا قال خالد بن الوليد عندما داهمته المنيّةُ على فراشه، ما من جُزءٍ في بدني إلاّ وفيه أثر سهمٍ أو طعنة، وها أنا أموت حتف أنفي، فلا نامت عيون الجبناء.

 وخطب عبدالله بن الزبير الناس لمّا بلغهُ قتلُ أخيه مُصعب: إن يُقتل، فقد قُتل أبوه وأخوه وعمُّه، إنّا والله لا نموت حتفاً ولكن قعصاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف، وإن يُقتل مُصعبٌ فإنّ في آل الزبير خلفاً منه. وقال السموءل بن عادياء:


وما مات مِنّا سيدٌ حتف أنفه 


ولا طُلّ منّا حيث كان قتيلُ


تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا


وليس على غير السيوف تسيلُ. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل له: أتقتلُ أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشيّ في إزارٍ ورداء؟ فقال: أبالموت تُخوّفوني؟ فوالله ما أُبالي أسقطتُ على الموت أم سقط عليّ.
كان الموت قعصاً مفخرة لسيد الشهداء يا حضرة القاضي، في حين أنّ العقوبة  مذلّةٌ وخسران، كما بيّنت حادثة " حُكم" مازح واستقالته أنّ القضاء ليس ب"المزاح"، بل هو جدٌّ وتعبٌ وتمحيصٌ واستشارة وحُسنُ تثبُّت، وعلى مجلس القضاء الأعلى أن يتحرّى من الآن وصاعداً مواقع الخلَل في هذا الجسم المُقدّس، لئلاّ تُصيبه هذه الطبقة السياسية الفاسدة بعدوى الفساد والغباء والاستهتار والإرتهان.