مقدّمات الحرب اللبنانية بدأت مع هزيمة العام 1967، ومن ثم مع اتفاق القاهرة في العام 1969، واندلاع المواجهات المتفرقة والعنيفة وصولاً إلى التأريخ الرسمي للحرب في 13 نيسان 1975 الذي كان يمكن ان تكون شرارته في 3 شباط أو 23 أيار.
الهدف من هذه المقدّمة القول بأنّ الحرب أصبحت بعد حدثي الهزيمة والاتفاق السرّي، بمثابة تحصيل حاصل والأمر الواقع الذي ينتظر الساعة الصفر، فيما احتمالات منع الحرب، على رغم ضآلتها، كانت متوافرة لو انوجدت المساعي الحميدة في هذا الاتجاه، والأمر نفسه ينطبق اليوم على واقع الحال المالي، حيث انّ الانهيار الشامل وسقوط هيكل الدولة والانزلاق إلى الفوضى أصبح حتمياً، ولم يعد مهماً تاريخ الانهيار الذي تحوّل إلى مجرد تفصيل، إذ يمكن حدوثه في 13 تموز أو 23 آب أو في أي يوم من أيام الأشهر المقبلة.

 

فلقد دخل لبنان في دينامية الانهيار الشامل والعدّ العكسي لسقوط السقف على رؤوس الجميع، وهذا الكلام ليس من باب التخويف ولا إخفاء الحقائق والوقائع الظاهرة للعيان، إنما من زاوية تسليط الضوء على ما أصبح يشكّل هاجساً لدى معظم اللبنانيين، فيما السؤال الذي يطرح نفسه لا يختلف عن السؤال الذي ما زال مطروحاً منذ زمن الحرب اللبنانية: هل كان ثمة من إمكانية لمنع الحرب؟ وهل استنفدت آنذاك محاولات منع سقوط الدولة؟ وهل من إمكانية اليوم لمنع الانهيار الشامل، وكيف؟

 

لا شك انّ احتمالات تجنيب البلد المحظور، الذي يفترض ان أحداً لا يريده كونه لا يخدم أحداً، ما زال متاحاً، بخاصة انّ الانهيار ينعكس سلباً على الجميع، لأنّ الفوضى على غرار الحرب لا يمكن التحكّم بمسارها واتجاهاتها. وبالتالي، على رغم ضآلة هذا الاحتمال، غير انّه ما زال موجوداً، ومن الجريمة بمكان عدم المبادرة لمنع تكرار تجربة الحرب التي يخرج الجميع منها خاسراً ومهزوماً.

 

ومن المسلّم به، انّ استمرار الواقع الحالي سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى الانهيار، لأنّ فرصة الإنقاذ مع السلطة الحالية مستحيلة، بدليل انّ التدهور يتواصل، والقوى الحاكمة والمتحكّمة غير قادرة على فرملته بسبب عجزها وعدم إلمامها ولا استعدادها للتضحية بمكتسباتها، ولو كانت قادرة لفعلت وبادرت، لأنّ الفوضى تُفقدها القدرة على مواصلة الإمساك بمفاصل القرار، ولكنها عاجزة وقاصرة، وبالتالي النتيجة الكارثية أصبحت على قاب قوسين أو أدنى في حال لم تتنح السلطة القائمة عن مسؤولياتها.

 

ولكن، هل الأكثرية الحاكمة في وارد التنحّي طوعاً كمدخل للإنقاذ؟ بالتأكيد كلا، وما زالت تراهن على أوهام، إما تطورات سياسية أميركية- إقليمية، أو مساعدات خارجية في اللحظة الأخيرة حرصاً على استقرار لبنان، خشية من فتح ساحة يصعب إغلاقها بسبب تشابك العوامل الطائفية والمذهبية والسياسية، وإما قلب الطاولة أمنياً باغتيالات سياسية أو عن طريق فتح جبهة الجنوب، من أجل القول للأميركيين انّ الموت السريري البطيء غير ممكن، وانّ خيار «عليّ وعلى أعدائي» يبقى قائماً، أو انّ الانهيار مجرد تهويل لانتزاع مكاسب سياسية، فيما هذا الانهيار، بالنسبة إلى هذه الأكثرية، لن يحصل.

 

وبمعزل عن تعدّد الأسباب، إلّا انّ النتيجة تبقى واحدة، وهي انّ الانهيار مع السلطة القائمة حاصل حتماً، والقرار الدولي اتُخذ بعدم تقديم اي مساعدة للبنان ما لم يستعد قراره المستقل، ومع تعذُّر ذلك، يبقى احتمال أوحد من طبيعة مزدوجة، فإما ان يفرض الشارع إيقاعه ويدفع السلطة إلى الاستقالة طوعاً ومجبرة، والذهاب إلى انتاج سلطة جديدة تحمل المشروع الإنقاذي المطلوب، وإما ان تتوحّد المعارضة من أجل قيادة البلاد إلى شاطئ الأمان.

 

فضغط الشارع يمكن ان يقف عند حدود التغيير السلمي، في حال رأت الأكثرية الحاكمة انّه لم يعد أمامها من خيار سوى التجاوب مع مطالبات الناس والتنّحي، لأنّ استمرارها في مواقعها يعني الفلتان وعدم القدرة على ضبط الشارع المتفلِّت من كل قيود وضوابط، والشارع سينفجر، كون كل عوامل الانفجار موجودة، وهي عوامل معيشية لا مؤامراتية خارجية كما يحلو للبعض توصيفها.

 

وعلى مقلب المعارضة، فهي تقوم بما تستطيع القيام به، وهو التحذير من الأعظم والأسوأ، ليس فقط لكونها خارج السلطة، إنما لأنّ مفاصل القرار ممسوكة من قِبل الفريق الحاكم بشكل محكم، ولا تجد بأنّها قادرة على فعل أي شيء، كما لا تجد أيضا بأنّها قادرة على البقاء في موقع المتفرِّج على البلد يسير الى انهيار أمام أعينها، وبالتالي ستجد نفسها مضطرة، على رغم تبايناتها الكثيرة، إلى توحيد جهودها من أجل كفّ يد الأكثرية الحاكمة، باعتبار انّ مواجهة هذا الواقع من مواقعها المنفردة لن تؤتي النتيجة المتوخاة منها.

 

وقد يكون الالتقاء الموضوعي بين المعارضة والشارع هو الخيار الأفضل لتحقيق التغيير المنشود، فتستفيد المعارضة من غضب الناس لفرض أجندة التغيير تجنباً للفوضى، لأنّ اندفاعة الشارع لوحدها ستقود إلى المجهول، فيما المعارضة قادرة على تلقّف الموقف لانتزاع التنازلات من السلطة على طريقة «العصا والجزرة»، ولكن ليس بغية ان تتسلّق المعارضة على ضهر الناس، لأنّها غير موثوقة من قِبلهم أيضاً، بل لرسم خريطة طريق المرحلة المقبلة.

 

وأوّل بند في الخريطة هو الانتخابات المبكرة لإعادة إنتاج كل السلطة، لأنّ التغيير الحكومي لوحده لم يعد يفي بالمطلوب، في ظلّ وجود الرئيس ميشال عون في بعبدا مدعوماً من «حزب الله»، وأي حكومة جديدة، ولو كانت من اختصاصيين مستقلين، لن تتمكن من تحقيق المطلوب منها، وما كان ممكناً لو تشكّلت حكومة من هذا النوع على أثر استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري، لم يعد متاحاً اليوم. وفي حال تمّ تفويت أيضاً الانتخابات المبكرة، فيعني انتفاء الخيارات السلمية والدخول في المجهول.

 

فلبنان أمام مرحلة عصيبة جداً، والخيارات تضاءلت كثيراً والأفق مسدود بشكل تام وكامل، ولم يبق سوى الاستقالة الطوعية او الإسقاط في الشارع للعبور إلى مرحلة جديدة، وخلاف ذلك يعني الفوضى الحتمية التي تُدخل لبنان في مرحلة جديدة شبيهة بحقبة الحرب، يمكن تقدير كيف تبدأ ولكن يصعب توقُّع كيفية تطورها، مع فقدان اللبنانيين القدرة على التحكُّم بمصيرهم، الذي يصبح معلقاً على تطورات المنطقة المفتوحة بدورها على شتى الاحتمالات.

 

فهل من مصلحة لبنان ان «يتسورن» نسبة إلى الوضع السوري؟ وهل المعارضة يمكن ان تبادر إلى توحيد صفوفها؟ وهل سينجح لبنان بتجنُّب الأسوأ، أم انّ قدر اللبنانيين إعادة استنساخ حقبة الحرب بأشكال أخرى؟ وهل الفرصة التي لم تُلتقط في العام 1975 ستُلتقط هذه المرة؟

 

وعلى رغم من انّ احتمالات النجاة ضئيلة جداً، إنما الأمل في الإنقاذ يبقى متاحاً وممكناً، ومن الخطيئة تفويت هذه الفرصة.