تعددت السيناريوهات التي واكَبت الانتفاضة الليلية للبنانيين، وأوحَت باحتمال إحياء ثورة «17 تشرين» متجاوزة ظروف «حركة 6 حزيران». وإن نَضحت بما يرغب به كل فرد او مجموعة، فهي افتقدت أي معطى يؤدي الى الخروج من المأزق، وهو ما دفع الى توقّع اكثر من سيناريو أسوأ من «إقالة حاكم» أو «استقالة حكومة»، فالحلول ما زالت بعيدة. فما الذي يقود الى هذه المعادلة؟

قياساً على حجم الفرز الحاصل بين اللبنانيين، موالين ومعارضين ومتفرّجين، من دون أي موقف يتّصل بما يجري من تجاذبات، فقد بقيت كل السيناريوهات المتوقعة مظلمة جداً طالما انه ليس هناك أيّ بصيص أمل يمكن ان يؤدي الى الإضاءة على أيّ من المخارج الواقعية التي يمكن ان ترسم خريطة الطريق الى بداية الخروج من النفق الطويل الذي دخلته البلاد. فقد توالت الاحداث السلبية التي قادت الى مجموعة الازمات السياسية والنقدية ومعهما مختلف وجوه الحياة في لبنان.

 

على هذه الخلفيات، توسعت دائرة التحليلات بعد أحداث ليل أمس الأول، وراحت بعض التوقعات توحي انّ انتفاضة 17 تشرين قد تجددت لمجرد الحديث عن بداية نصب الخيَم في الساحات وفي بعض المناطق التي تحولت مسرحاً رمزياً للتعبير عن النقمة الشعبية. وبمعزل عن أعمال الشغب الاخيرة التي طاولت فروعاً لمصرف لبنان المركزي في بعض المناطق والاعتداءات التي طاولت مصارف ومؤسسات خاصة ومنشآت عامة أخرى عَبّرت عن هوية المعتدين الذين لم يكونوا في معظمهم من اهل الانتفاضة الاولى، إلّا بعد أن دخلت على الخط مجموعات لم يعد من الصعب تحديد هويتها السياسية ومن تُمثّل من أفراد وجماعات سياسية وحزبية وشخصيات قاومت لفترة بدايات الانتفاضة وعملت على تفكيكها وتحريف أهدافها وشيطنتها.


 
 

ليس في ما سبق أيّ جديد يشكّل اي مفاجأة، لكن المُستجد سياسياً وادارياً ومالياً أوحى بسيناريوهات جديدة تستند الى الفشل الحكومي في تطويق أيّ من الازمات القديمة او الجديدة. وزاد في الطين بلة ان أحيَت الحكومة في ملف التعيينات الادارية والمالية النموذج السابق الذي أدى الى تزخيم الانتفاضة في ذروة الرفض الشعبي لحجم الازمات النقدية والاقتصادية وفقدان العملة الخضراء وارتفاع الاسعار الجنوني، عدا عن ارتفاع نسبة البطالة وتراجع الموارد المادية للعائلة اللبنانية الى أكثر من الثلثين وفقدان عشرات الألوف مصادر عيشهم.

 

ولذلك، كان طبيعياً ان تستفزّ الحكومة في إجراءاتها الاخيرة - التي لم تستطع الدفاع عنها وتبريرها - ليس أهل الإنتفاضة والمعارضين فحسب إنما الموالين لها الذين انضمّوا إليهم ومعهم فئة واسعة ممّن كانوا في المنطقة الرمادية. ولكن ما كان لافتاً انّ المنتفضين الجدد نقلوا معهم الى الشارع شعارات مُغايرة لتلك التي رفعها الأوائل. فضاعت الاولى وحضرت البديلة منها، بما يعبّر عن الانقسام من ضمن اهل البيت الحكومي والسلطة. وهو ما برز لافتاً منذ اللحظة الأولى التي تلاقى فيها الطرفان في ساحة الشهداء، فبرزت الشعارات التي تعبّر عن عدم التفاهم حول الملفات الخلافية التي وضعت على الرف لفترة من الفترات ريثما تعبر صفقة التعيينات المالية والادارية التي عَبّرت عن صورة شَوّهت الحكومة وأفقدتها ما تبقى لديها من صدقية، وضاع السعي الى الاستقلالية عن الانقسامات الداخلية، فخسرت كل شيء بما فيها رضى من رَعى تركيبتها وتوزّع مقاعدها والحصص.

 

وعليه، وبمعزل عمّا يمكن ان يؤدي إليه مسلسل جلسات مجلس الوزراء امس، لا بد من التوقّف عند مجموعة السيناريوهات المتوقعة التي تمّ التداول في شأنها بين أهل الربط والحل والمتحكّمين بالسلطة وبمجرى الاجراءات الحكومية. ولذلك، طرح أكثر من سيناريو يتجنّب معظمها «التغيير» او «التعديل» الحكومي. ومنها على سبيل المثال:

- إقالة حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة بعدما اعتقد البعض انّ مجرد إحياء الاتفاق على التعيينات المالية والنقدية والادارية وتجاوز بعض ما كان صعباً داخلياً وخارجياً من دون ان يكون محظوراً، فإنه يمكن القضاء على التركيبة المالية كاملة فلا تبقى مجتزأة على مستوى نواب الحاكم والهيئات المُلحقة بالمصرف والدائرة في الفلك المالي والنقدي.


 
- الطلب الى مصرف لبنان ضَخ مزيد من الدولارات في السوق النقدية من اجل اعادة التوازن الى حركة السوق بُغية الحد من ارتفاعه غير الطبيعي بعدما اختلط ما هو واقعي بما هو عكسه، وخصوصاً عندما قادت موجة الشائعات عن أسعارٍ لدولارٍ مفقود الى تجاوز كل السقوف التي كانت متوقعة، تمهيداً لفرض رؤية اقتصادية ونقدية جديدة لا تتوافق مع نظرة الحاكم الحالي للمصرف المركزي ولا المصارف التي هالَها ما هو مطروح من مشروع لإفلاسها.

- الإعلان عن حال طوارىء تتقدّم على ما تقول به التعبئة العامة بغية وضع حدّ لِما يجري في الشارع المتفلّت من كل الضوابط. فالانتفاضة بصورتها الجديدة أمس تجاوزت ما كان قائماً من قبل. فانضمام من انضَمّ أمس الى التحركات أقلقَ الجميع من اهل السرايا الحكومية وبعض مكوّنات الحكومة والخصوم معاً. وإن كان البعض رغب في ان يعتبرها تعويضاً او سعياً الى طَي صفحة مساء «السبت المذهبي الأسود» الماضي فقد تجاوزت الاعتداءات منذ اللحظة الاولى ما كان متوقعاً من بوادر الرفض الشعبي، وهو ما قاد ليلاً الى التحرك على مستوى مجلس الوزراء.

 

ليس في ما سبق ما يوحي بانتصار أيّ من أصحاب هذه السيناريوهات، فالاول صعب جداً وخطير في شكله وتوقيته ومضمونه. فالمَس بالحاكم اليوم دونه عواقب لا تحتسب ببساطة، والذي يعتقد انّ هناك مَن يتسلّم مهماته لقلب الآلية المُعتمدة يكون غبياً وغير طبيعي. والرهان على مواجهة القرارات الاميركية والعقوبات الدولية هو مجرد هراء. ودعاة هذا السيناريو الذي يقترحه «حزب الله» ومعه «التيار الوطني الحر» من ضمن دعوته الى قيادة جديدة تدير السلطة النقدية بعدما أسقطا كل الخطوط الحمر يدركان انه سيشقّ «الثنائي الشيعي» أولاً، قبل أن ينعكس على بقية الأفرقاء، عدا عن تجاوزه ما يقول به قانون النقد والتسليف والمعايير الدولية.

 

امّا أصحاب السيناريوهين الآخرين فيدركون سلفاً صعوبة الأول لفقدان المال الكافي للسيطرة على السوق وضمان استقراره، ومن يقول غير ذلك لا يريد أن يقرأ الواقع. كما استحالة الثاني بكل المقاييس السياسية والعسكرية، فتطبيق «التعبئة العامة» كما تقول به أصولاً لم يقرّ خوفاً من سطوة العسكر على شيء من السلطة. ولذلك كله، يبدو واضحاً انّ كل ما هو متوقع سلبي وخطير ويوحي بالأسوأ من إسقاط الحكومة او «الحاكم» في انتظار خطوة ما تُحيي الأمل في إمكان نجاح السلطة الحالية بقيادة المرحلة، مع العلم سلفاً بالفشل المحتّم. فزمن العجائب ولّى من دون رجعة.