قرأ رئيس الحكومة حسان دياب رسالة التغيير الحكومي جيداً، فسارعَ إلى التماهي الكامل مع العهد في تعيينات بالجملة من أجل إكمال حلقة الإطباق على الدولة ومؤسساتها.تسير عجلة البلد في خطّين متوازيين: خط الانهيار المالي والغضب الشعبي، وخط الإطباق على مؤسسات الدولة من خلال رزمة تعيينات عُقد العزم على تمريرها أو تهريبها استكمالاً لوضع فريق 8 آذار يده على الدولة بشكل كامل استباقاً لأيّ تطورات محتملة داخلية أو خارجية، وإعطاء إشارة قوة في كل الاتجاهات بأنّ الفريق القابض على السلطة لا يكترث لأصوات الناس ولا لشروط صندوق النقد الدولي.

فالقوى التي تعمل عكس إرادة التغيير تذهب في خطواتها دوماً إلى الأمام، وهذا ما حصل مثلاً مع صدور القرار الدولي 1559 في العام 2004، فلجأت إلى المواجهة بدءاً من التمديد الرئاسي وصولاً إلى الاغتيالات السياسية، وهذا ما تفعله اليوم في مواجهة شروط المرحلة إصلاحياً و»قانون قيصر» سوريّاً. ولا يمكن تفسير هذا الإصرار على التعيينات، رغم إقرار مجلس النواب لقانون التعيينات وخلافاً لإرادة الناس ومعايير المجتمع الدولي، سوى إشارة إلى كل من يعنيه الأمر بأن لا مهادنة ولا تنازل ولا تراجع، إنما المزيد من المواجهة.

 

ويلمس هذا الفريق بأنه أصبح مطوّقاً بشكل مُحكم من 3 أضلع: مالياً وشعبياً ودولياً، ويعتقد بأنّ أي تنازل سيَجرّ إلى تنازلات عدة، فوجد انّ الحلّ الأمثل يكمن في المواجهة عن طريق خطة «أ» تقضي بمنح حكومة دياب فرصتها الأخيرة، فتخلع ثوب التردد وتنتقل من المساحة الرمادية إلى خط المواجهة وإلا سيكون التغيير مصيرها، وبالتالي إمّا ان تكون أداة طَيّعة في مرحلة لا تحتمل «الدلع» ويشعر فيها العهد و»حزب الله» بأنّ الخناق يشتدّ على رقابهما، وإمّا تشكيل حكومة جديدة قادرة على مواجهة التحديات المطروحة، والذي يندرج ضمن خطة «ب».


 
 

وهذه الخطة تقضي في العودة إلى حكومات الوحدة الوطنية على وقع توترات في الشارع مفتعلة تبريراً لخطوة من هذا النوع داخلياً وخارجياً بالقول انّ الخيار الوحيد لتلافي الحرب والفتنة تحصين الداخل بحكومة سياسية بامتياز، ومع تخويف الناس وضرب الثورة تستعيد القوى السياسية جرأتها على شعار «كلّن يعني كلّن»، فتعود إلى ما قبل 17 تشرين الأول ولكن مع فارق حكومة متجانسة داخليّاً في سياق مشروع سلطة ضمن حَدّين: حَدّ سقفه الزمني نهاية العهد، وحَدّ الاتفاق على العهد المقبل، وحكومة شبيهة بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى من زاوية وظيفتها الخارجية لجهة محاولة إقناع عواصم القرار بأنّ مواصلة حصار «حزب الله» والضغط على لبنان مالياً سيؤديان إلى انفجاره على غرار دعوة هذه العواصم على أثر خروج الجيش السوري من لبنان إلى وضع الشق المحلي من القرار 1559 بعهدة اللبنانيين.

 

ولكن ما لا تدركه الأكثرية الحاكمة أن لا الخطة «أ» ستفي بالمطلوب منها، ولا كذلك الأمر بالنسبة إلى الخطة «ب»، ليس فقط لأنّ التحايل على المجتمع الدولي لم يعد قابلاً للتمرير، بل لأنّ الأزمة القائمة ليست من طبيعة سياسية يمكن مواجهتها بالاستقواء وعرض العضلات، إنما من طبيعة مالية تستدعي إمّا التجاوب مع الشروط الإصلاحية التي هي بالأساس داخلية قبل ان تكون خارجية، وإمّا الانزلاق نحو الفوضى.

 

ومن هذا المنطلق فإنّ كل الخطوات التي أقدمت عليها الأكثرية الحاكمة في سياق التعيينات لمزيد من الإمساك بمفاصل الدولة لن تشكّل، كما تعتقد، مظلة أمان لها، بل ستُسرِّع في وتيرة الانهيار، لأنّ ما أقدمت عليه سيؤدي إلى مزيد من تحدي إرادة الناس واستفزازها، والأهم انّ هذه الخطوات تَصبّ في إطار تعزيز نفوذها وقبضتها، فيما لن تساهم هذه القبضة لا من قريب ولا من بعيد في التخفيف من حدة الأزمة المالية وخطورتها، كونها بخلفية استقوائية لا إصلاحية.

 

فلا الحكومة الحالية ولا المزمع تشكيلها، في حال استدعت الظروف ذلك، في وارد حلّ أزمة الكهرباء أو إقفال المعابر غير الشرعية وضبط المعابر الشرعية او الالتزام بآلية التعيينات أو ترشيد القطاع العام أو إصلاح قطاع الاتصالات وغيرها من الخطوات الإصلاحية، بل ستحافظ على مكتسباتها المصلحية التمويلية لسياساتها، وبالتالي «فالج ما تعالج»، وكأنّ هذا الفريق الذي لم يقتنع، على رغم تقارير الخبراء، بأنّ الانهيار حتمي، ما زال يعتقد بإمكانية الحفاظ على سلطته ونفوذه ومكتسباته من دون تقديم التنازلات المطلوبة.


 
 

فقوة أيّ سلطة لا تكمن في بطشها وخشونتها، إنما في مرونتها بالتعامل مع الأحداث والتطورات، ولا يبدو انّ الأكثرية تريد ان تّتعِظ من تجارب العالم والتاريخ ومن ضمنها لبنان، ولا تريد ان تقتنع بأنّ زمن إمساكها بمفاصل الدولة والورقة اللبنانية انتهى، وأنها أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا الإنكفاء وإمّا الفوضى. وبالتالي، بات من الأجدى التفكير ليس في خطة «أ» ولا في خطة «ب»، إنما في خطة «ج» انتقالية ومهمتها منع الفوضى بدلاً من أن تضطرّها الظروف إلى اللجوء للمرحلة الانتقالية من أجل إدارة الفوضى. 

 

فالرهان الصغير أساساً على الحكومة الحالية انتفى نهائياً مع التعيينات الأخيرة، فيما كان الأمل بأن ينجح رئيسها وبعض أعضائها غير المُنتمين إلى النادي السياسي التقليدي بتغيير النهج التدميري للمؤسسات وتقديم تجربة مختلفة، خصوصاً انّ الوضع الانهياري المعطوف على الغضب الشعبي يشكّل دعامة أساسية لهذا التوجّه، ولكن هذا المكوِّن لم يتمكن من الصمود أمام القوى التي أوصَلته إلى الحكومة، فتطبّع سريعاً مع سلوكها وممارستها. وبالتالي، أصبح الأمل بالإنقاذ متعذّراً إلى درجة انّ حظوظه تساوي في أفضل الأحوال صفراً مكعباً.

 

ومن هذا المنطلق كل الأنظار ستكون شاخصة على توالي فصول الانهيار في ظل غياب خطوات عملية إصلاحية، وما يسرِّع في وتيرة هذا الانهيار قانون قيصر ودخول الوضع السوري في انهيارات مماثلة علاوة على الانهيار القائم، والأسابيع القليلة المقبلة ستظهر خطأ الرهان على الصمود، لأنّ الوضع اللبناني لا يشبه الوضع الإيراني، ولن ينجح «حزب الله» في تجميد الأوضاع إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، بل سيكون أمام خيارين: الفوضى والسقوط المدوّي، أو تأليف حكومة بمواصفات المرحلة وتحدياتها ولا علاقة له ولا للعهد بمكوناتها وتوازناتها، فتكون حكومة انتقالية بمهة استثنائية مالية-سياسية وقبل الانتخابات الأميركية، حيث انّ المرحلة الانتقالية أصبحت حتمية والمسألة مسألة وقت قصير لا أكثر.

 

ولا يعقل أن يكون الفريق الحاكم في موقع الغافِل لخطورة التطورات وتدحرجها السريع، ويظنّ انه بحفنة من التعيينات، إرضاءً لرغباته السلطوية، يستطيع تجميد الوضع وإمساكه، فيما سقوط الهيكل، الذي إذا حصل بسببه، سيطيح بكل نفوذه الذي يعمل واهماً على تدعيمه وغافلاً بأنّ الوضع المالي المعطوف على الغضب الشعبي والمعطوف على الحصار الدولي أكبر من كل إجراءاته وخطواته.