خيّبت التعيينات المالية والإدارية آمال كثر ممن وجدوا فيها محاصصة فجّة وفاجرة فوق انقاض دولة منهارة، من دون مراعاة التحوّلات في المزاج الشعبي بعد 17 تشرين. ولكن، كيف تبدو الصورة من نوافذ السرايا الحكومية، وما هو موقف الرئيس حسان دياب من الاتهامات التي وُجّهت اليه؟

لم تكن التعيينات موضع انتقاد من قِبل معارضي دياب فقط، بل انّ جزءاً من المتحمسين له ولتجربته الحكومية صُدم ايضاً بما حصل في وضح النهار، ليس فقط لأنّ تلك التعيينات غير مطابقة للمواصفات، وإنما لأنّ دياب وافق عليها، بعدما كان بعض مؤيّديه يراهن على أنّ الرجل لن يستسلم لشروط اللاعبين السياسيين الكبار، ولن يقبل بأن يبتلعه بئر المحاصصة حتى لو كلّفه ذلك الاستقالة.

 

وأكثر ما استفزّ هؤلاء، هو ما أشيع عن انّه جرى تفصيل جلسة مجلس الوزراء على قياس المرشّح الى منصب مدير عام وزارة الاقتصاد، بحيث جرى تقديم موعد الجلسة من الخميس إلى الأربعاء، ربطاً بتاريخ ميلاده، لئلا يفوته قطار التعيين.


 
 

يتعامل دياب بأعصاب باردة مع سيل الإتهامات، مستفيداً في ذلك من اسفنجة طبعه التي تسمح له بامتصاص الهجمات، من دون أن تظهر عليه عوارض الانفعال او التوتر.

 

وينفي المطلعون على أجواء دياب ما يتمّ ترويجه عن استقالته، مشيرين الى أنّ هناك استهدافاً منهجياً لحكومته من قِبل المتضررين من عملها، وأنّ التضليل هو أحد ابرز الأسلحة التي تُستخدم في المعركة ضدّه، كما جرى حين تمّ تصوير مسألة انعقاد مجلس الوزراء الأربعاء محل الخميس، على انّه خدمة شخصية لأحد المرشحين الى التعيينات، في حين انّ الحقيقة، تبعاً للمحيطين برئيس الحكومة، هي انّه تقرّر هذا الأسبوع عدم عقد جلستين لمجلس الوزراء يومي الثلاثاء والخميس كما درجت العادة، لأسباب تتصل بطبيعة جدول الأعمال، فكان ان تمّ تحديد جلسة واحدة يوم الأربعاء بمعزل عن مسألة التعيينات.

 

ويعتبر المقرّبون من دياب، انّ الحملة عليه وعلى حكومته تنطوي على مقدار كبير من التجنّي والظلم، وتعكس في جانب منها انزعاج البعض من اتمام التعيينات، خصوصاً في المجال المالي.

 

ووفق مقاربة السرايا الحكومية، فإنّ ما جرى ليس امتداداً للمحاصصة التقليدية التي كانت تتمّ في السابق بشكل فاقع ونافر بين القوى السياسية، «لأنّ التدقيق في السِيَر الذاتية للمعينين وفي طريقة تعيينهم، يثبت انّ اموراً جوهرية تغيّرت نحو الأفضل بالمقارنة مع تجارب الماضي».

 

بالنسبة إلى أوساط دياب، لا يمكن التجاهل التام لدور الاحزاب السياسية التي من الطبيعي ان يكون لها تأثير ما في التعيينات، خصوصاً انّ الحكومة تعمل بموجب الثقة النيابية التي حازت عليها من بعض تلك الاحزاب، «ومن يفترض انّ بالإمكان الغاء التأثير الحزبي بالكامل هو واهم ومشتبه، في ظل التركيبة الحالية للسلطتين التنفيذية والتشريعية، ولو تولّى قديسون زمام الأمور في لبنان ما كانوا ليستطيعوا تجاهل هذا الواقع»، على حدّ تعبير الأوساط.

 

لكن المهم، من وجهة نظرها، انّ القوى السياسية لم يعد بمقدورها ان تتحكّم بالتعيينات لوحدها، وان تفرض أسماء حصرية تهبط بالمظلات كالقضاء والقدر، كما كان يحصل على امتداد عقود من المحاصصة الشخصية والفئوية الضيّقة، «بل انّ خرقاً حقيقياً جرى على هذا الصعيد في اتجاه الإصلاح، عبر إعطاء الأفضلية لمعياري الكفاءة والنزاهة في اختيار الأسماء، حتى لو كان لدى بعضها هوى سياسي، إذ في نهاية المطاف لا يمكن الإتيان بأشخاص من العالم الخارجي، لكن بالتأكيد نستطيع تحسين شروط التعيينات ومواصفاتها، وهذا ما فعلته الحكومة».


 
 

بهذا المعنى، لا تعتبر الأوساط انّ دياب هو الذي خضع الى طلبات السياسيين، «بل هم الذين اقتربوا من المعايير التي تمسّك بها، والاسماء خضعت الى الغربلة والتمحيص من ضمن عشرات السِيَر الذاتية التي تقدّم بها المرشحون الى المواقع الادارية والمالية».

 

وضمن هذا الإطار، عُلم انّ دياب التقى شخصياً في السرايا عدداً كبيراً من المرشحين في سياق اختبار اهليتهم الوظيفية وتكوين صورة واضحة عنهم قبل تحديد موقفه النهائي من هذا الاسم او ذاك، وهو استطاع ـ وفق العارفين ـ تعديل بعض الخيارات ربطاً بالانطباعات التي كوّنها بعد الاختبارات التي اشرف عليها.

 

وتبعاً لمصادر السرايا، يرى دياب انّ رزمة التعيينات التي اقرّها مجلس الوزراء تختلف كثيراً عن الطبعة التي رفضها في المرة السابقة وحال دون اعتمادها، كاشفة انّه كانت لديه آنذاك اعتراضات على 6 اسماء من أصل 12، على قاعدة انّ بالإمكان انتقاء أشخاص اكثر كفاءة من اولئك الستة، في حين تحفّظ على اسمين فقط ضمن سلّة التعيينات التي اعتمدها مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، وهو مقتنع تماماً بأهلية الآخرين لاستلام المراكز التي تولوها.

 

وفي المعلومات، انّ دياب سعى حتى اللحظات الأخيرة مع بعض الجهات السياسية لإبعاد هذين الاسمين، وهو تلقّى إشارات الى احتمال استبدالهما خلال «التفاوض» الذي استمر حتى دقائق قليلة قبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء، لكن في نهاية المطاف لم يحصل التعديل الذي كان يريده.

 

هنا، فكّر دياب في أن يسحب مجدداً ملف التعيينات من على طاولة مجلس الوزراء، في انتظار معالجة التباين حول الاسمين، الّا انّه عاد وصرف النظر عن هذا الخيار، لانّ هناك حاجة ملحّة، في رأيه، لعدم اضاعة المزيد من الوقت ولإنجاز التعيينات الحيوية، خصوصاً في القطاع المالي وتحديداً في ما يتعلق بنواب حاكم مصرف لبنان الأربعة، بغية وقف التفرّد بالقرار في مصرف لبنان، واستكمال متطلبات التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ومباشرة البحث في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ولجم الجانب المريب من الارتفاع في سعر الدولار، على حدّ تعبير أوساط السرايا.

 

ولكن لماذا لا يقلب دياب الطاولة على الطبقة السياسية ويقدّم استقالته، كما طالبه الكثر في الحراك الشعبي والوسط السياسي، احتجاجاً على محاولات اخضاعه لقواعد اللعبة التقليدية؟

 

من منظار المحيطين بدياب، ليس هناك أسهل من ان يستقيل ويرمي كرة النار في أحضان المسؤولين عن انفجار الازمة التي يرزح لبنان تحت وطأتها حالياً، انما السؤال التالي والاهم، في رأيهم، هو ماذا بعد الاستقالة واي سيناريو سنواجه؟

 

يرى المقرّبون من رئيس الحكومة، انّه ستكون هناك على الأرجح فترة طويلة من تصريف الأعمال، في ظلّ غياب اي توافق على البديل الحكومي المحتمل، ما يعني الدخول في مرحلة من الشلل والعجز عن اتخاذ قرارات اساسية. متسائلين عمّا اذا كان لبنان النازف والمهدّد بمخاطر كبيرة يتحمّل الانزلاق الى مثل هذا الوضع؟

 

ومع ذلك، يترك المقرّبون الباب مفتوحاً على كل الفرضيات في المستقبل، ملمّحين الى انّه اذا استمرت الطبقة السياسية بحشره واحراجه، فإنّه قد يكون مضطراً الى «استخدام أوراق قوة لا تزال مطوية في جعبته».

 

والمستهجن بالنسبة إلى المقرّبين من دياب، هو «التقليل من شأن الإنجازات التي حققتها الحكومة في مئة يوم»، لافتين الى انّها نفذت الكثير مما كان مطلوباً منها وفق روزنامة البيان الوزاري، «مع الاخذ في الحسبان أنّها ليست حكومة ثورية او انقلابية، بل تسعى الى التغيير ومكافحة الفساد من داخل المؤسسات والنظام، وبالتالي ليست هي المسؤولة عن إنجاز التشريعات الضرورية وإنما مجلس النواب، وليست هي المعنية بسجن الفاسدين وإنما القضاء، لكن بالتأكيد من واجبها إيجاد البيئة المناسبة والتسهيلات اللازمة للدفع في هذا الاتجاه».

 

ولا تخفي أوساط السرايا الكبيرة اقتناعها بأنّ الارتفاع الكبير الذي سُجّل في سعر صرف الدولار امس وخلال الأيام القليلة الماضية، هو مفتعل وموجّه من بُعد، بهدف زيادة الضغط السياسي والمالي لوقف ما تفعله الحكومة، مؤكّدة الإصرار على عدم الخضوع للضغوط، وكاشفة انّ إجراء سيُنفّذ قريباً انطلاقاً من السرايا للجم سعر الصرف ومنع توظيفه في حسابات اللعبة السياسية.