لم يكن احد يتوقع ان تصل الاوضاع في لبنان الى هذا الدرك. حتى اكثر التوقعات المتشائمة لم تصل الى هذا المقدار من السوداوية. والاسوأ انّ الاتجاه الانحداري لن يقف هنا، بل يتجّه الى الأصعب والاسوأ، وهو واقع لم يسبق ان عاشه اللبنانيون حتى في عزّ ويلات الحرب اللبنانية.

 

كان من المفترض ان تؤدي أحداث «السبت الاسود» الى انعكاسات سلبية على حركة التظاهر. فالاستغلال السياسي جاء بأبشع صورة، ورمى من جديد الشارع في لعبة الصراع المذهبي. لكن اندفاع الطبقة السياسية الحاكمة من جديد في لعبة المحاصصة وفي ابشع صورها، وضرب استقلالية السلطة القضائية، والإمعان في هزالة صورة الحكومة، كل ذلك جعل النتائج السلبية للسبت الاسود تتبدّد بسرعة، وليعود الناس الى الشوارع بعد ساعات.

 

والمشكلة، انّ الغيوم تتجمّع في سماء المنطقة، وهي توحي بعاصفة قريبة، فيما لبنان، الذي بات من دون اي قدرة دفاعية له على المستويين الاقتصادي والنقدي، ما زال عاجزاً عن القيام بأي بند اصلاحي رغم كل ما حصل.


 
 

وخلال المفاوضات المستمرة مع صندوق النقد الدولي، بدا انّ الرهان على قرب الحصول على مساعدات مالية قريبة، ليس في مكانه. فالصندوق الدولي بات يلمّح الى مساعدات قد لا تتجاوز في حدّها الاقصى سقف الـ5 مليارات دولار، ووفق برنامج يمتد لـ5 سنوات، شرط الالتزام بالبنود الجاري التفاوض حولها. ويضع وفد الصندوق في مقدّمة شروطه، ان يقوم لبنان بتسديد كامل ديونه، قبل البحث في موضوع المساعدات المتوقعة من الصندوق. وفي هذا المطلب شيء من التعجيز في ظلّ واقع الخزينة اللبنانية.

 

وفي الشروط التي يطرحها وفد صندوق النقد والجاري التفاوض حولها، موضوع تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية فوراً. إضافة الى بنود اخرى تتعلّق بوضع ضرائب جديدة، مثل رفع نسبة ضريبة الـ tva لتصل الى 15% وزيادة ضريبة الدخل. هذا من دون الاخذ في الاعتبار الوضع الكارثي للشركات والمؤسسات التجارية، والتي هي في الاساس غير قادرة على الاستمرار وفق الواقع الحالي، فكيف مع زيادة الضرائب. وظهر في الاجتماع الاخير وللمرة الاولى، طلب الإمساك جيداً بالحدود البرية والبحرية والجوية، وقيام الدولة اللبنانية بالإصلاحات المطلوبة والتي باتت معروفة.

 

في الواقع، فإنّ البند المتعلق بالإصلاحات، على الحكومة اللبنانية القيام به بمعزل عن طلبات صندوق النقد الدولي. ورغم ذلك، فإنّه من غير المفهوم تلكؤ لبنان عن القيام بتلك الإصلاحات حتى الآن، خصوصا وانّ الحكومة الحالية ولدت نتيجة للحراك الشعبي الذي انفجر رفضاً للفساد والمحاصصة. وكلما تأخّرت الحكومة في إقرار الاصلاحات المعروفة، كلما ارتفع الثمن الذي سندفعه لاحقاً.

 

وقد يقول البعض، انّ العام الحالي شهد إشارات ايجابية، حيث سينخفض استيراد لبنان من الخارج الى نحو النصف، اي من 17 مليار دولار الى ما بين 8 او 9 مليارات دولار. لكن المشكلة هل هذا كافٍ؟ وكيف سيلبّي مصرف لبنان حاجات الاستيراد الحالية؟ ولأي فترة زمنية وفق الرصيد الضئيل الذي بات بين يديه؟ حتى على مستوى ملف الكهرباء، فإنّ الأخبار لا تبشّر بالخير، مع همس حول تراجع حماسة الشركات الكبرى مثل «سيمنز» و»جنرال الكتريك»، عن الاستمرار في عروض الاستثمار، بسبب سعر الجباية، والذي سيكون بالعملة الوطنية طبعاً، وغياب الضمان المطلوب حول طريقة تحويله الى العملات الاجنبية.


 
 

في الواقع، امام لبنان ثلاثة احتمالات لتأمين الاموال الكفيلة بإعادة دوران عجلته الاقتصادية والقيام بتنفيذ برنامج اصلاحي بموازاة ذلك:

 

ـ الاحتمال الاول، وهو صندوق النقد الدولي، حيث تبدو الشروط صعبة لا بل شبه مستحيلة، في مقابل مبلغ لا يتجاوز الـ5 مليارات دولار على مراحل تمتد لـ5 سنوات.

ـ الاحتمال الثاني، وهو الذي يطرحه البعض، بالاستيلاء على اموال المودعين في المصارف، اضافة الى اموال المؤسسات المصرفية، ما يضمن تأمين تسكير ديون الدولة اللبنانية، وبالتالي الانطلاق مع صندوق النقد الدولي لتنفيذ البرنامج الموضوع. وهذا الحلّ سيعني بالتأكيد ضرب القطاع المصرفي الى الأبد. أضف الى ذلك، انّ السنوات المقبلة ستكون قاسية وستشهد تراجعاً في مستوى الخدمات التي يتميّز بها لبنان، خصوصاً في القطاعين الاستشفائي والطبي والتعليمي. فأصحاب الكفايات سيفضّلون الهجرة سعياً وراء ربح افضل ومستقبل اضمن.

ـ الاحتمال الثالث، فيذهب في اتجاه آخر، بعيد من المساعدات المشروطة لصندوق النقد الدولي، ويعتمد على اساس تأمين مداخيل جديدة للدولة اللبنانية من خلال موارد موجودة، الى جانب تنفيذ اصلاحات فورية كان من المفترض ان تبدأ اساساً لحظة نيل هذه الحكومة الثقة.

 

ووفق اصحاب هذا الرأي، فإنّه لا بدّ من التوجّه الى اصول وموجودات الدولة اللبنانية. فإذا كان لا بدّ من اخذ نسبة من ودائع الناس والمصارف، فالأجدر تأمين اسهم في المقابل، لمحفظة تحوي اصولاً واملاكاً للدولة اللبنانية، بما يعطي تعويضاً لأصحاب الودائع. او انّ هناك من طرح فكرة اخرى، كان جرى طرحها ايام الرئيس رفيق الحريري، وتقضي ببيع اراضي مطار بيروت الدولي وربما مرفأ بيروت، وفق اسهم يجري طرحها على مستوى الدول، واقامة اسواق تجارية ضخمة ومؤسسات سياحية، وهو ما سيفتح الابواب امام توسيع دائرة العجلة الاقتصادية، واقامة مطار جديد للبنان وفق شروط السلامة التي بات يفتقدها في مكان آخر بعيد عن العاصمة السكنية، كما في كل بلدان العالم، اضافة الى انشاء مرفأ جديد لبيروت في منطقة اخرى، وفق مواصفات تتلاءم مع شروط المنافسة التي باتت موجودة.

 

ويعتقد اصحاب هذا الاقتراح، انّ هذا ما سيؤمّن اكثر من 100 مليار دولار، اضف الى ذلك اعطاء دفع هائل للحركة الاقتصادية الداخلية.

 

لكن ما غفل عن هؤلاء، انّ المشكلة الاساس تبقى في الذهنية السياسية للطبقة السياسية الحاكمة، وانّ الاصلاح يبدأ من هنا.

 

يقول التاريخ، انّ ادولف هتلر نظّم حملات انتخابية باهرة وجذابة، وخاض الحزب النازي انتخابات العام 1928 على اساسها. لكن المانيا التي كانت تعيش رخاءً اقتصادياً مزيفاً يعتمد على الديون الاميركية السخية، خذلت طروحات الحزب النازي، ليحصد فقط 12 مقعداً نيابياً. لكن في العام 1929 وقع الكساد الاقتصادي الكبير، ما دفع بالولايات المتحدة الاميركية الى مطالبة المانيا بتسديد ديونها، وذلك ادّى الى سقوط المانيا في ازمة اقتصادية قاسية. وفي العام 1930 حصلت الانتخابات مجدداً وصُدم الحزب النازي، ولكن ايجاباً هذه المرة، عندما حصد 107 مقاعد، ليصبح الحزب الالماني الاكبر.

 

واوجه الشبه كثيرة بين ما حصل في المانيا في العام 1930 وما يحصل في لبنان اليوم.