العقل الديني هذا، المؤسس ليس على مفاهيم دينية راقية وبالتأكيد ليس على مقاصد الشريعة ونبل غاياتها، وإنما على فقه متخلف لا يمت إلى المفاهيم الانسانية بأيّ صلة.
 

لما كنا نستمع لقراء العزاء يروون قصة  ذلك المتدين الملتزم بأحكامه الفقهية بحذافيرها، والدهشة التي أبداها الامام زين العابدين (علي بن الحسين الامام الرابع عند الشيعة)، كنا نعتقد بأن القصة ما هي إلا واحدة من قصص القراء المخترعة بهدف استثارة العواطف والمشاعر ليس إلا.

 

 

القصة تقول بأن أحد المتدينين تقدم من الامام زين العابدين وهو يطوف حاجا حول الكعبة، ليسأله عن حكم  قتله بعوضة كانت على يده أثناء الطواف، فيسأله عن حكم حجّه، وما هي الدية التي تتوجب عليه؟!، ولما سأله الامام من أي البلاد هو منها؟ جاءه الجواب الصادم أنه من العراق ومن الكوفة تحديدا، والصدمة الأكبر حين علم الإمام أن هذا "المُحتاط والملتزم" كان متواجدا بواقعة كربلاء ومساهما بقتل الامام الحسين وأهل بيته !!! فما كان من الامام زين العابدين (ع)، إلا أن بكى وزاح بوجهه عنه وقال: تقتل ابن بنت رسول الله وأهله وأولاده ثم تأتي لتسأل عن قتلك للبعوضة ؟؟

 


 
استحضرتني هذه القصة بحذافيرها وبكل مندرجاتها ومداليلها، حين أُثارت حادثة تلك الفتاة "المجرمة" التي ضُبطت مرتكبة بجرم السباحة في نهر الخرخار (عربصاليم)، وهي ترتدي لباس السباحة غير المحتشمة!!
 
من حيث المبدأ صحيح أن من بديهيات القول هو حتمية احترام كل مواطن لطبيعة المنطقة وثقافتها وعاداتها المتواجد بها، إلا أن من الملفت في هذه الحادثة أن من ثاروا وهاجوا وانتفضوا واستنكروا على تلك الفتاة المسكينة (طبعا هي لم تكن بوارد التحدي أو الإساءة لأحد)، هم أنفسهم هؤلاء (بالأعم الأغلب ) لا نراهم يستنكرون منكرا بحجم السكوت أو دعم سرقة المال العام ونهب ثروات البلاد وتجويع الناس، وهم أنفسهم لا يستنكرون القتال والمشاركة به إلى جانب طاغية قاتل النفس المحترمة كبشار الاسد !!!

 

 

هذا العقل الديني العفن، هو هو، يجد ألف تبرير "شرعي" لموبقات قد تعتبر من عظائم الامور، ونراه مستنفرا حيرانا، أمام تفصيل صغير لا يمت إلى جوهر الدين بصلة.

اقرا ايضا :ضعف حزب الله في قوته


 
العقل الديني هذا، المؤسس ليس على مفاهيم دينية راقية وبالتأكيد ليس على مقاصد الشريعة ونبل غاياتها، وإنما على فقه متخلف لا يمت إلى المفاهيم الانسانية بأيّ صلة، ليصبح أسير الحلال والحرام وفق فتوى اجتهادية مستندة إلى فهم فقيه مستغرق ولا يزال بدهاليز التاريخ المعتمة.

 هذا العقل الديني الفقهي هو السبب الرئيسي في تخلف المجتمع المتدين طالما لم يتحرر من كهوف هذا الفقه ويخرج منه إلى رحاب آفاق الانسانية التي إنما أنزلت الأديان لخدمتها وليس العكس.

 


 
وكمثال آخر على استعمال التخلف الديني الفقهي، واستغلاله لمآرب سياسية جوفاء بالمعنى الواقعي هو ما شهدناه من حملة استنكار واسعة وهجمة شرسة على حادثة مقتل المواطن الاميركي جورج فلويد صاحب البشرة السوداء.

كذلك الحال هنا أيضا، فإن من المستهجن حد الغرابة أن هؤلاء المتدينون المستنكرون لكل أشكال العنصرية والتفريق بين البشر في أميركا، هم أنفسهم كان حتى الامس القريب يطلقون على وزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا ريس نعت "العبدة السوداء"، وهم أنفسهم لا يزالون يتمسكون بفقههم الذي يُدرّس حتى اللحظة في حوزاتهم الدينية، هذا الفقه الذي يفرد فصل كامل يتحدث فيه فقهائهم عن أحكام الرق والعبيد!! ويتحسر أحدهم الآن لأن قانون حقوق الانسان قد منعه من تملك رقبة (أن يكون عنده عبد) ليعتقها إذا ما اضطر للافطار عمدا في شهر رمضان!!! 

 

 

في المحصلة، يمكننا القول بأن العقل الديني الفقهي، هو خطر حقيقي على التدين أولا وعلى المجتمعات البشرية ثانيا، وأنه لا مندوحة لهذه المجتمعات من السير إلى الامام واللحاق بالمسيرة البشرية طالما أن هذا الفقه لم تنله أيدي النقد والهدم والنسف ومحاولة إعادت صياغته وفق متطلبات الحياة، فإنه سوف يبقى مصدرا رئيسيا من مصادر التخلف وسوف نبقى نسمع بالكثير من أمثال هذه القصص التي تحيّر العقول الطبيعية .