السادس من حزيران 2020 لم يكن يوماً عادياً من أيام الثورة التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول. إنّ أبرز الدلالات التي زخرت بها تلك الأمسية كان إقتصار حضور الدولة على الأداء الأمني الشكلي بالرغم من فداحة ما جرى. لم تفلح جسامة الحضور العسكري في إخفاء القلق والخوف الذي عبّرت عنه جموع حزب الله المحتشدة على تخوم ساحة الشهداء والمتحفزة للإنقضاض على أعداد المتظاهرين المتواضعة، مما لا  يدع مجالاً للشك بأنّ المأزق الذي يعانيه حزب الله  كبير بل كبير جداً. لا يمكن تصديق أنّ ما جرى ، على اختلاف الساحات من الوسط التجاري حتى عين الرمانة- الشياح مروراً بمنطقة المزرعة، حصل بقدرة قادر ودون تخطيط مسبق، ولا يمكن إلا التوقف مليّاً عند الرسائل التي حملتها الساعات المعدودة من ذلك اليوم.
 
في السادس من حزيران لم يكن مطار رفيق الحريري قد استعاد حيويته كما لم يكن لبنان قد استعاد أيّاً من قطاعاته الجاذبة، لكي نعتقد خطأً أنّ آلاف السياح قد دخلوا الأراضي اللبنانية دون إمكانية متابعتهم، وهم حضروا الى ساحات الوسط التجاري وارتجلوا من تلقاء أنفسهم التجمهر عند مداخل الخندق الغميق وشارع بشارة الخوري، واختراق صفوف المتظاهرين ورمي الحجارة وتكسير المحلات التجارية وسرقتها.  لا تستطيع كل الإستنكارات أن تغيّر من واقع ما جرى. لقد تضافرت جهود جمهورَي حزب الله وحركة أمل وجهود المندسّين والمتسللين بين الثوار، فأنتجت تلك اللوحة من الشتائم والحجارة والهتافات المذهبية الفاقعة والمقززة، فيما اقتصر دور القوى الأمنية على تعهّد المشهد لجهة استكمال الصورة بين متظاهرين معتدى عليهم من الداخل والخارج، ومعتدين مشمولين بالعفو الدائم لتعذّر محاسبتهم.
 
لم تجدِ كلّ العناوين المنخفضة السقوف التي استبقت بها الأحزاب المعارضة ولا سيما المسيحية منها تحرّك السادس من حزيران، ولم تؤدِ الوعود بالإلتزام بالمطالب المعيشية الى التخفيف من بطش حزب الله بالمتظاهرين واستكمال المناورة بالإعتداء المسلّح على أحياء عين الرمانة، وبمعنى آخر أرادت الأحزاب المسيحية المعارضة من خلال العناوين المتواضعة شراء الوقت وتأجيل المواجهة لظروف أكثر ملاءمةً على حساب التضحية المؤقتة بمواقفها المبدئية، الأمر الذي تلقفه حزب الله مع الإصرار على استعراض البدائل في حال فشل التفاوض والإستمرار بالتمسّك بنزع السلاح. وقد شكّلت المناورة المحضّرة في عين الرمانة النموذج المعروض للتطبيق والتعميم في أكثر من منطقة.
 
العناوين المنخفضة السقوف التي التزمتها الأحزاب المسيحية لم تأتِ من فراغ ولم تكن عربوناً لحسن النوايا ، إذ تؤكّد أكثر من جهة أن هناك إتصالات قام بها حزب الله لدى هذه الأحزاب في محاولة للإلتفاف على أزمته الخارجية ومأزقه الداخلي. وقد شملت هذه الطروحات جملة من الأضاحي ومنها استقالة الرئيس حسان دياب وتأليف حكومة جديدة تحظى بدعم الفرقاء السياسيين، والتخفيف من حدّة الرعاية المطلقة للوزير جبران باسيل الذي أحرج الحزب في أكثر من ملف، مع التلميح بتدني منسوب الثقة به بعد محاولات باسيل الإيحاء للأميركيين بأنّه على استعداد للتمايّز عن حزب الله لا سيما في ملف المعابر غير الشرعية.
 
تدرك المعارضة اللبنانية ومن ضمنها المعارضة المسيحية حراجة الإستحقاقات التي تواجه حزب الله في ضوء انكشاف حقيقة ميزان القوى العسكري في سوريا والإنهيارات الإقتصادية والنقدية المتسارعة خلال أيام معدودة من تطبيق قانون قيصر،حيث فقدت الليرة السورية  أكثر من 30% من قيمتها، بالإضافة الى تيقّن حزب الله من هشاشة وضع الرئيس بشار الأسد الذي أضحى ورقة روسية مطروحة للتفاوض بشكل علني. ويفاقم كلّ ذلك الموقف الأميركي المتصاعد بوجوب الخروج الإيراني غير المشروط من سوريا وكفّ يد فرنسا عن التعاطي بالملف السوري لعجزها عن تحقيق أي تقدّم على امتداد الأربع سنوات المنصرمة. 
 
ويدرك حزب الله والمعارضة اللبنانية على اختلاف صنوفها تداخل الإستحقاقات الداخلية المطلوبة من حزب الله باستحقاقات خارجية تفوق قدرة حزب الله على التفاوض لارتباطها بمستقبل إيران في المنطقة. فالسير بالإصلاحات الإدارية والإلتزام بإقتراحات صندوق النقد الدولي ووقف التهريب والتخلّي عن المعابر الشرعية وغير الشرعية لا تخرج حزب الله من تبعات الإنسحاب من سوريا ومسألة الصواريخ عالية الدقة وتواجد الحرس الثوري في لبنان وسوريا، وهذه مسائل لا يمكن القفز فوقها أو تجاوزها لمجرد عقد صفقة سياسية مع أطراف لبنانيين، وبالتالي فإنّ التسويق أو التوصّل لتفاهمات داخلية لا يعني شيئاً لأنه سيبقي على المخاطر الخارجية التي يبدو أنها بحاجة لعمليات جراحية دولية.
 
يبدو من المستحيل إخراج التفاهمات اللبنانية من القيود والإلزامات الدولية، التي ترسم معالم تغييرات ساخنة في ضوء قانون قيصر والتجديد لقوات اليونيفيل وامتلاك إيران السلاح النووي التكتي. وفيما يعتقد البعض أنّ الثورة في لبنان تمّ وأدها في السادس من حزيران، وأنّ ساحة الشهداء ليست سوى فناءً أمامياً لحزب الله وساحة مفتوحة للصدام، وأنّ ما جرى في عين الرمانة هو تطور قابل للتراكم. تستعد الثورة بقواها الكامنة للتعبير عن نفسها بأشكال جديدة ومن منابر مختلفة تليق بشعبها وبمكوّناتها.
 
خالد حماده