منذ الحرب الأهلية، لم يعرف لبنان مثل هذا «الكلام الكبير» الذي بدأ تداوله في الكواليس وداخل المؤسسات والأجهزة، ثم خرج إلى الصالونات المفتوحة. ويوحي هذا الكلام، بأنّ هناك أحداثاً خطِرة على وشك الوقوع في لبنان. فهل هو في محلِّه أو إنّه «ملغوم» أو مبالَغ فيه؟ وتالياً، هل يمكن أن تكون وراء افتعاله جهة معينة أو أكثر من جهة... «لغايةٍ في نفسِ يعقوب» أو أنفُسِ أكثر من «يعقوب»؟
 
 
البيئة الحاضنة لكلام الهواجس جرى تحضيرها في الأسابيع الأخيرة، وفي شكل مثير. فالسجالات السياسية خرجت من الإطار «التقليدي» المحصور بالخلافات على الحصص والزعامة والنفوذ، وباتت تدور حول عناوين «جذرية» لطالما جرى اعتبار التداول بها من المحرَّمات.
 
في البداية، سُرِّب كلامٌ على صحة رئيس الجمهورية، رافقه كلام مفاده أنّ خليفة عون في الرئاسة لن يكون «زعيماً» مسيحياً، بل سيكون «حسّان دياب بطبعة مارونية»، منعاً لأي «وجع رأس» متوقَّع أو محتمل. هذا الأمر أثار استفزازاً في بعض الأوساط المسيحية، كما هو يثير اليوم استفزاز السنّة.
 
بعد ذلك، رمَت المرجعية الفقهية الشيعية قنبلتها التي تنسف صيغة 1943 والطائف معاً. وفي هذا المناخ، نما انطباعٌ بأنّ لا تمثيل قوياً، لا للمسيحيين ولا للسنّة، في العهد الرئاسي الآتي.
 
وفجأة، قفز «المؤتمر التأسيسي» إلى الواجهة، بعدما كان نائماً منذ فترة بعيدة نسبياً. ومن خلاله أثار «حزب الله» لدى الآخرين هواجس انتقاله، بكامل النفوذ، من السيطرة في لعبة السياسة والأمن إلى السيطرة على النظام والكيان.
 
ويقال إنّ «الحزب» مضطر إلى الاستعجال في تحقيق هذا الهدف، لأنّ الضغط الدولي والعربي المتزايد يهدِّد بانتزاع أوراق قوته التي قاتل طويلاً للاحتفاظ بها، وهو ليس مستعداً للتخلّي عنها بأي شكل من الأشكال، ومهما كان الثمن غالياً.
 
ووفق بعض المطلعين، قد لا يكون ضرورياً لـ»الحزب» أن يدعو إلى عقد مؤتمر يُقِرُّ تغيير النظام، في ظلّ عقبات عدة تعترضه. وقد يكون الأنسب هو إيجاد طريقة تتكفّل بتحقيق أهداف المؤتمر من دون الحاجة إلى انعقاده، خصوصاً أنّه يُمسك بسلطةٍ لا معارضة فاعلة لها:
 
رئيس الجمهورية حليفٌ مطلق، ورئيس الحكومة لا حيثية زعاماتية له، والحكومة والمجلس النيابي والمؤسسات تُدار بـ»الريموت كونترول».
 
واللافت هو أنّ نوعية الردود على تهديد «حزب الله» بتغيير النظام والصيغة لم تكن من النوع المعتاد. فكثير من القوى المسيحية ردّ بطرحٍ الفدرالية، سواء مباشرةً أو «بالمداورة» من خلال «اللامركزية الموسّعة». وحتى حلفاء «الحزب» المسيحيون يفضِّلون تغييراً يبدأ بلامركزية إدارية موسَّعة ثم تزداد اتساعاً لتصبح سياسية، في شكل تدريجي.
 
طبعاً، هذا الطرح لا يعني التقسيم. لكنه يستثير القوى الشيعية النافذة حالياً، لأنّه ينسف واقع السيطرة على الدولة والنظام. ولكن، لا مشكلة «عقائدية» لـ»الحزب» مع الفدرالية. ولا شيء يمنع من أن تصبح الفدرالية مطلباً شيعياً في لبنان، إذا انقلبت المواقع ذات يوم، واقتضى الأمر أن يكون ذلك مصلحة للشيعة. والدليل أنّ العراق يعتمد نظاماً يراعي الفدرالية.
 
في الخلاصة، إنّ أي مبادرة من «حزب الله» لتغيير النظام ستقود لبنان إلى بلبلة هائلة، ذات طابع طائفي ومذهبي. وإذا كان «الحزب» محشوراً فعلاً بالساعة الأميركية، ويستعجل تحقيق إنجاز في الأشهر الباقية من العام الجاري، فيمكنه أن يتوقع مواجهة داخلية تتداخل فيها الطوائف كلها. وسيجد «الحزب» نفسه حيث كان موارنة «الجمهورية الأولى» الذين انتهت «امتيازاتهم» بالحروب والانتفاضات.
 
ويتردّد في العديد من الأوساط المسيحية والسنّية والدرزية، أنّ أي محاولة من «الحزب» لتغيير النظام والصيغة سيتمّ الردُّ عليها، ولو «انتحارياً». وبأي ثمن، لن تقبل الطوائف بأن تتفرَّد واحدة دون الأخريات بالسلطة وقيادة البلد وتقرير هويته ومصيره. والأخطر أنّ هناك مَن يخشى سماعَ قرقعةِ السلاح في خضم هذه المغامرة الخطرة. ولكن كون السلاح محصوراً بأيدي فريق واحد، دون سواه، يطمئن بعض الشيء.
 
في أي حال، بعض المطلعين يطلق تحذيرات شديدة اللهجة: «لا تستسهلوا اللعب بالثوابت في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الشرق الأوسط. فلبنان المنهار اقتصادياً وسياسياً والمحتقن اجتماعياً يشبه كومة القشّ اليابس، فيما النار مندلعة في الجوار السوري والعراقي، وفيما العديد من القوى الإقليمية، وفي مقدّمها إسرائيل، ينتظر لحظة التعثُّر أو السقوط في لبنان لفرض الخيارات الكبرى.
 
هذه التحذيرات ستصبح أكثر إلحاحاً مع انطلاق الانتفاضة الثانية في موعدها المقرّر غداً. فالحراك الشعبي الذي سبقها قبل أيام حمل عنوان تنفيذ القرار 1559 ونزع سلاح «حزب الله». وهذا الأمر لم تشهد الانتفاضة الأولى مثيلاً له. ولذلك، ظهَرَ في بيئة «الحزب» اتجاه واضح إلى «شيطنة» حراك 6 حزيران مسبقاً، باعتباره عملاً خطَّطت له الولايات المتحدة لضرب «الحزب».
 
ويخشى البعض أن يخلق مناخ التخوين، بين مجموعات الجائعين في كل المعسكرات، توتراً عارماً في الشارع يجري تنفيسه بالنقمة، خصوصاً أنّ شرائح الانتفاضة منقسمة حيال المطالبة بنزع السلاح، أو على الأقل حول الأولويات الواجب مراعاتها: الاقتصادية- الاجتماعية أم السياسية- الأمنية؟
 
فكثيرون باتوا مقتنعين، بعد الانتفاضة الأولى، أن لا مجال لتحقيق انفراج اقتصادي وإصلاح حقيقي إلّا بتغيير نموذج السلطة الذي يتحكّم به «حزب الله». فيما آخرون يفضّلون البقاء حالياً عند العنوان الاقتصادي والاجتماعي. وهذا الانقسام يمكن أن يستفيد منه «الحزب» وسائر قوى السلطة لمحاولة إضعاف الانتفاضة والتخلّص منها.
 
وإذا كانت مجموعات من المناصرين قد دخلت على خط الحراك ميدانياً في انتفاضة 17 تشرين الأول، وفي شكل مكشوف، «لوضع المنتفضين عند حدِّهم»، فإنّ هناك خوفاً، هذه المرّة، من قيام قوى السلطة بتشجيع الانقسامات بين شرائح الانتفاضة، فتتصادم وتعطّل نفسها بنفسها.
 
ولكن السيناريو المتداول لا يستبعد أن تتّسع المواجهة في الشارع، ويختلط حابل المطالب المعيشية بنابل المطالب السياسية والطائفية، ويصبح متعذراً تقدير: مَن مع «حزب الله» ومَن ضده؟ ومَن مع الانتفاضة ومَن ضدها؟ ومَن يضمن ألّا تنتهي المواجهة طائفيةً ومذهبيةً؟ وفي هذه الحال، أين ستكون الحكومة ومؤسساتها وأجهزتها؟ وهل مِن طرفٍ يترقّب هذا السيناريو لتحقيق غايات معينة؟
 
إضافة إلى هذه الأسئلة الساخنة، هناك أخرى أكثر سخونة لا يجرؤ أحد حتى على طرحها بصوتٍ عالٍ. فهل ما زال الوقت والظرف يسمحان بتجاوز الكارثة؟