إذا كان "قانون قيصر" الأميركي لمعاقبة النّظام السوري يهدّد أحلام الكثير من الذين بنوا أبراجاً عاجية من الأفكار والخطط التي تسمح للبنان بالإبتعاد عن العلاقة العضوية مع الأميركيين في مرحلة أولى، ومع الأوروبيين في مرحلة لاحقة، فإن السؤال الذي يُمكن طرحه في هذا الإطار، يتعلّق بمدى رغبة الصّين بتعويم "مشرقية" إقتصادية لبنانية وسورية وعراقية...، "ممانِعَة"، من خارج أي انسجام مع الغربيين عموماً، والأميركيين خصوصاً، وبما يخرج عن التنسيق مع الروس.
 
فحتى الإحتجاجات العنيفة التي تحصل في الولايات المتحدة الأميركية حالياً، والتصارُع الأميركي - الصيني حول ما يحصل في هونغ كونغ، كلّها وغيرها من الأزمات، تحضّر العالم لمرحلة من خلط أوراق وتفاهمات وتسويات دولية جديدة، ستنعكس على كلّ دول العالم، ومن بينها دول الشرق الأوسط.
 
"الحرير"
 
ففي مراقبة بسيطة لبعض التصاريح، يُمكننا تلمّس أن الأمور ليست بالسّهولة التي قد يفترضها البعض، وذلك بمعزل عن مفاعيل "قانون قيصر".
 
فخلال حفل توقيع وزير الثقافة عباس مرتضى اتّفاقية تعاوُن مع السفير الصيني في لبنان وانغ كيجيان، الأسبوع الماضي، لإنشاء مراكز ثقافية في كلّ من لبنان والصين، أبدى مرتضى حماسة زائدة في كلامه لم نلمسها لدى السفير الصيني نفسه.
 
ففي كلمته، لفت مرتضى الى أنه تطرّق خلال اللّقاء مع السفير الصيني الى التعاون الزراعي بين البلدَيْن، خصوصاً أننا في ظلّ أزمة أمن غذائي وسلامة غذاء، و(تطرّق) الى إمكانية الإستفادة من الخبرة الصينية في هذا المجال، وتقديم الدّعم بكلّ المعايير، لا سيّما أن دولة الصين سبّاقة في مساعدة دول عدّة.
 
أما السفير الصيني، فبدا من جهته أقلّ حماسة، إذ لم يتطرّق في كلمته الى أي شيء خاصّ بلبنان، وملموس في وقت قريب، بل اكتفى بالتعبير عن سعادته لتوقيع الإتفاقية (حول المراكز الثقافية)، حاصراً مواقفه بالمشروع الاستراتيجي العالمي لبكين، القائم على "طريق الحرير"، والذي لا يتعلّق بخصوصيّة صينية معيّنة بحدّ ذاتها مع لبنان، تخرج عن الإطار العام المرتبط بهذا المشروع، وذلك من خلال قوله:"نحن شركاء في العمل المشترك لبناء "طريق الحرير" الجديد لتعزيز التبادُل الإنساني بين البلدَيْن، دون أن نغفل موقع لبنان الثقافي والريادي في المنطقة".
 
وهذه الوقائع تُعيد البحث الى النّقطة الجوهرية التي تقول إن لبنان بالنّسبة الى الصينيّين، ليس أكثر من حلقة من حلقات "طريق الحرير"، وإن أي نوع من العلاقة بينه وبين الصين مستقبلاً، لن تهدف الى إشباع رغبات بعض الأطراف "المُمانِعَة" فيه (لبنان)، أو في الشرق الأوسط، على مستوى دول محور "الممانعة".
 
خطّة
 
أوضح الوزير السابق فارس بويز أن "الصين لم ترسم خطة لطموحات سياسية توسّعية دولية لها بَعْد، وحتى اللّحظة الحالية، بمعزل عن الملف الإقتصادي. وتبدو أولويتها منحصرة في تحقيق نموّها الإقتصادي، وليس الطموحات السياسية العالمية".
 
وأكد في حديث الى وكالة "أخبار اليوم" أن "المراهنة على استبدال لبناني للغرب بالصّين كشريك سياسي أو إقتصادي، هو أمر سابق لأوانه، ولا سيّما على الصّعيد السياسي، وذلك طالما أن بكين لا تُظهر طموحاً حتى الساعة، على مستوى القيادة السياسية للعالم. فهي تكتفي الآن بتثبيت اقتصادها القوي، وطموحاتها الإقتصادية العالمية".
 
وشدّد على أن "الأولويات الصينية من التوسّع الإقتصادي هي نفطية. ومن هنا، فإن ما يهمّها بالأكثر هو التوجُّه نحو الدول النفطية، لأنها (الصين) تستهلك نحو ما يزيد عن 30 في المئة من الطاقة النفطية العالمية، فيما أنها لا تنتج طاقة نفطية. ولذلك، من ضمن أولوياتها هي أن تتّجه نحو الدول النفطية في الشرق الأوسط، أي دول الخليج العربي وإيران، كأولوية، بينما لبنان ليس دولة نفطية حتى هذه اللّحظة. وبالتالي، لا يُمكن بناء الكثير من الآمال على علاقات إقتصادية لبنانية - صينية، فيما الحديث عن اهتمام صيني بلبنان كحليف إقتصادي في المنطقة، هو سابق لأوانه".
 
توتّر شديد
 
وشرح بويز:"لا شكّ في أن العالم يواجه أزمة إقتصادية عالمية، ترتبط بالتنافس الإقتصادي الأميركي - الصيني، وبأزمة الممارسة الأميركية للعقوبات، التي جعلت الصين وروسيا وغيرها من الدول تفكّر باستبدال الدولار كعملة وحيدة في العالم، أو كعملة نفطية في شكل خاص. وهو ما يزعج واشنطن باعتبارها الأقوى في العالم، وتسيطر على أسواق النفط العالمي".
 
وأضاف:"كما لدينا أزمة تتعلّق بالغاز العالمي، كبديل من البترول، لا سيّما أنه طاقة نظيفة أكثر من الثاني (البترول)، ولا يتسبّب بمشاكل بيئية مثله. ومن هنا، فإن معارك خفيّة تحصل حول آبار الغاز في العالم في الوقت الراهن".
 
ولفت الى أن "معارك الغاز والدولار والتزاحُم الإقتصادي، تجعل العالم في توتّر شديد. وأتت أزمة "كورونا" كعامل مؤجّج للإضطراب. وما نشهده الآن من احتجاجات في الولايات المتحدة الأميركية ليس غريباً عن هذا المناخ، حتى وإن كان السبب المباشر لما يحصل هو مقتل جورج فلويد على يد شرطيّ أميركي. فالشّحن الإقتصادي والعرقي والسياسي، الذي سبّبه الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ وقت سابق، خلق مناخ الإحتجاجات".
 
وختم:"الحروب العسكرية والسياسية الدولية الكبرى، تأتي دائماً من مصدر إقتصادي. فالعالم يمرّ بمرحلة اضطراب كبير حالياً، وكل الإحتمالات مفتوحة. ولذلك، فإن المراهنة اللبنانية على استبدال الغرب بالصّين في الوقت الراهن، هو سابق لأوانه، خصوصاً أن بكين غير مهتمّة بالتوسّع السياسي في لبنان، بهذا الشكل، وهو ليس أولوية آنية لها، لا سيّما أنه (لبنان) لا يشكّل أهمية إقتصادية كبرى، أو نفطيّة لها (الصين)، حتى إشعار آخر".