معركتان يخوضهما رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بالتوازي والتكافل والتضامن: معركة رئاسة الجمهورية، ومعركة شَد العصب المسيحي من أجل فرملة التراجع التمثيلي بسبب الفشل في إدارة البلاد والثورة الشعبية.

 

ينطلق باسيل في مواجهته من قاعدة انه يريد أن يربح الدنيا والآخرة معاً، أي الرئاسة الأولى والوزن المسيحي، ولكنه في حال خسر الدنيا، أي الرئاسة، لا يريد أن يخسر الآخرة بخسارة التمثيل المسيحي، وهذا ما جعله يعمل على خطين متوازيين: توجيه رسالة إلى «حزب الله» مفادها انّ عدم تبنّي ترشيحه يجعله في حلّ من أي التزام معه على طريقة التعامل بالمثل، والخط الثاني رفع العناوين التي تدغدغ مشاعر المسيحيين في محاولة لاستعادة الحضور الشعبي من الباب المسيحي.

 

ففي الاستحقاق النيابي الأخير لمسَ باسيل وجود تراجع جدي في شعبية تيّاره على رغم انّ العهد كان في مطلع انطلاقته وقوته ولم يتعرّض بعد لثورة قامت بجزء كبير منها ضده، ولا لانهيار مالي يشكّل إدانة مباشرة للعهد والسياسات التي اتّبعها، فكيف بالحري بات عليه وضعه بعد كل ما حصل من أحداث وتطورات، خصوصاً انّ دوره مُتأتٍ من تمثيله، وإذا فقد هذا التمثيل سيفقد تلقائياً دوره؟.


 
 

وإذا كانت رئاسة الجمهورية نتاج القوة التمثيلية للتيار فلن يفرِّط بهذه القوة التي شكلت وتشكِّل عِلّة وجوده، وبالتالي سيقوم بالمستحيل من أجل ان يعيد الاعتبار للتمثيل الشعبي الذي تراجع بفِعل الوصول إلى السلطة وانكشافه أمام الرأي العام لجهة انّ كل وعود الإصلاح والتغيير التي رفعها لم يتحقق منها شيء، بل الأسوأ انّ الانهيار حصل في عهده، وقامت ثورة شعبية بشَيطنته وحوّلته إلى شخص غير مقبول من قبل الرأي العام وغير مرغوب من جانب القوى السياسية.

 

وحيال كل ذلك، يبدو انّ باسيل، وبعد خلوات مكثّفة وتفكير معمّق، قرر الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، مُعتمداً خطة مزدوجة: السعي حتى الرمق الأخير لخلافة الرئيس ميشال عون، والالتفاف على الانتفاضة الشعبية التي ثارت في وجهه باعتماد خيار من اثنين: إمّا تبنّي شعارت الثورة بالتخلّي عن الخطاب المسيحي لمصلحة الخطاب المدني والعلماني، وإمّا العودة إلى الأدبيات المسيحية.

 

ومع إدراكه صعوبة اختراق مزاج الرأي العام الثائر بسبب تداخل العامل الطائفي والمدني لدى الجماعات والأفراد التي لم تعد تستسيغ دوره وممارسته ومواقفه، وجد انّ البيئة المسيحية تبقى الأسهل والأكثر خصوبة لخطابه، فقرر مخاطبتها بما تحبّ سماعه في لحظة انهيار كل المنظومة التي شكّلت تاريخياً القيمة المضافة للدور المسيحي الثقافي والتعليمي والطبي والسياحي والاقتصادي والسياسي...

 

ويعتقد باسيل انّ اللحظة الحالية تشبه إلى حد كبير لحظة العام 2005 عندما خرج الجيش السوري من لبنان وانهارَت مع خروجه آمال المسيحيين بالتغيير المنشود من خلال الوصول إلى الدولة التي اعتقدوا بأنّ مجرد رفع يد النظام السوري عن لبنان سيقود إلى تحقيق تطلعاتهم، فتفاجأوا انّ التغيير اقتصر على عودة من المنفى وخروج من المعتقل من دون العودة إلى الدور الوطني الوازن، بل شكّلت هذه المرحلة استمراراً للوضع نفسه بأدوات أخرى وعناوين انقسامية قديمة-جديدة، الأمر الذي أدى إلى حَرد بطريرك الاستقلال وقادَ إلى انتخابات عرف العماد عون كيف يستثمرها لمصلحته.


 
 

وانطلاقاً من ذلك، يرى باسيل انّ اللحظة الراهنة شبيهة إلى حد كبير باللحظة السابقة في ظل الخوف على المصير والحاضر والمستقبل، فقرّر مخاطبة غرائزهم مجدداً بالكلام عن اللامركزية المالية وتغيير النظام السياسي وإحياء معادلة إمّا العلمنة وإمّا توسيع رقعة النظام الطائفي باعتماد الفيدرالية والتخَلُّص من اتفاق الطائف الذي كان دوماً محطّ اعتراض التيار.

 

والمواجهة التي يخوضها هي بمثابة حياة أو موت، إذ لم يسبق أن تعرّض «التيار الوطني الحر» لزلزال من هذا النوع أدّى للمرة الأولى إلى شَيطنته شعبياً. وبالتالي، يعتقد أنّ خَشبة خلاصه الوحيدة تكمُن بفَك ارتباطه التدريجي مع «حزب الله» طالما انه ليس في وارِد تَبنّي ترشيحه بصورة علنية، والعودة إلى مربّع المزايدة المسيحية.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل سيتمكن باسيل من استعادة الثقة المفقودة؟ وهل سينجح باختراق الوجدان المسيحي مجدداً؟ وهل مهمته ستكون سهلة وفقاً لتوقعاته او شاقة وسيخوضها لانتفاء الخيارات أمامه؟ وإذا كان من الجَلي انّ رئيس «التيار الحر» قرّر خوض ما يعتبره حياة أو موتاً بطيئاً، فهل الرأي العام المسيحي في وارد منحه فرصة جديدة؟

 

أولاً، المأزق الذي أوصَل باسيل نفسه إليه ليس من السهولة بمكان الخروج منه، والرأي العام المسيحي الذي منح عون ثقته يتعامل مع باسيل على قاعدة «لا يُلدغ المؤمن من الجحر مرتين»، لأنّ الفشل الذي أصاب مسيرة العهد انعكس على جميع اللبنانيين، وبمَن فيهم الطائفة المسيحية. وبالتالي، الوكالة التي أعطيت لهذا الفريق كانت وفق أسس معينة، وليس من السهولة تبرير عدم القدرة على تحقيق الوعود والمطلوب في ظل سلطة تقريباً مطلقة، ولذلك سيبدأ السحب التدريجي لهذه الوكالة، وقد بدأ، بفِعل اهتزاز عامل الثقة.

 

ثانياً، ما كان ممكناً مع العماد عون ليس مُتاحاً مع باسيل، فضلاً عن أنه حتى عون الذي يمثِّل رمزية تاريخية عَرّض تياره لاهتزازات تنظيمية وشعبية مع انتقاله من خيار إلى آخر، والدليل تراجع شعبيته في استحقاق 2009 بسبب تفاهم مار مخايل في العام 2006.

 

ثالثاً، التنقُّل بين الخيارات الاستراتيجية ليس نزهة، ويكشف سريعاً القوى التي تمتهن هذا الدور على حقيقتها، لجهة كونها سلطوية لا مبدئية، فتتقلّب بين هذا الخيار او ذاك تحقيقاً لأهدافها السلطوية، وإذا كانت كلفة الانتقال من الخيار السيادي إلى الخيار المُمانع لم تكن باهظة كفاية، فإنّ الكلفة بالاتجاه المعاكس ستكون كبيرة، خصوصاً انّ تبرير هذا التحوّل لن يكون سهلاً، وتحديداً بعد الوصول إلى السلطة وانزلاق البلد إلى نكبة غير مسبوقة.

 

رابعاً، المسيحيون غالباً ما يبدّون الخيارات المبدئية على السلطوية المصلحية، والاستثناء الوحيد كان العماد عون، ولن يكون من السهل على باسيل رفع عناوين سياسية تدغدغ مشاعر المسيحيين بعدما أصبحوا على دراية بأنها للاستخدام السياسي على مذبح السلطة وليس لخدمة تطلّعاتهم في مشروع دولة في لبنان، ولا سيما انّ المسار الذي سلكه «التيار الحر» إن من خلال التحالف مع «حزب الله»، أو على أثر الوصول إلى السلطة، لم يخدم مشروع الدولة الذي من دونه ليس هناك من دور متألِّق ومتقدِّم للمسيحيين.

 

خامساً، حاول عون ان يقنع المسيحيين بعد إبرامه التفاهم مع «حزب الله» بأنّ المشكلة في لبنان من طبيعة سنية لا شيعية، وانّ الحزب كان خارج الثلاثي الحاكم إبّان الوصاية السورية (بري والحريري وجنبلاط) وانّ الجيش السوري خرج من لبنان، فيما الإشكالية المطروحة دائماً بمعزل عن هذا الطرف او ذاك تتمثّل بالجهة التي تحول دون قيام الدولة، وبالتالي بماذا سيقنعهم اليوم؟ فهل ينقلب على خياره التحالفي مع الحزب؟

 

ويبقى انّ الناس تمنح ثقتها او تسحبها انطلاقاً من 3 عناوين أساسية: الخط التاريخي، الممارسة السياسية ترجمة لهذا الخط والمبادئ، والثقة بالقيادة. وعندما يتحوّل الخط إلى خطوط، والممارسة إلى نقيض الوعود والشعارات، والقيادة تفتقد إلى الرمزية التاريخية، يستحيل من الآن فصاعداً استخدام وتوظيف الشعارات في خدمة مشاريع سلطوية.