لم يعد صعباً تَوقُّع الآتي في ضوء التطورات التي طرأت في الأيام الأخيرة. وكانت إطلالة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، قبل يومين، شديدة التعبير: إنهاء التهريب عبر الحدود واجب. لكن ذلك يتمّ عبر السلطتين اللبنانية والسورية، وبالتعاون بين الجيشين، وليس بواسطة القوات الدولية.

 


 
إذاً، هذا هو بيت القصيد. لم تكد تنطلق المفاوضات مع صندوق النقد حتى ظهرت الجوانب الحقيقية من الأزمة، والتي كان مستغرباً أنّ خبراء «خطة التعافي» رموها بعيداً عنهم، كما كل أبواب الهدر والفساد الحقيقية الأخرى. لقد استرسلوا في الشطارة التقنية والأرقام، وفضَّلوا استخدام الآلة الحاسبة لتعويض النقص في برامج الإصلاح. وهكذا هربوا من «وجع الرأس».
 

 


لم يطل الانتظار، وسرعان ما ظهر التشابك في مفاهيم «الفساد»: هل التهريب، عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، يجب أن يتوقف لأنّه جزء من مزاريب الهدر والفساد أو إنّه أمرٌ واقع تفرضه طبيعة العمل الميداني الذي ينخرط فيه «حزب الله» هناك، وضرورات تَنقُّل عناصرِه بين الساحتين اللبنانية والسورية؟

 


 
أي، هل يمكن فصل «البُعد التهريبي»، الذي تتولاه مافيات الفساد على جانبي الحدود، عن «البُعد الاستراتيجي» الذي يتولّاه «حزب الله»، أم إنهما متشابكان على أرض الواقع، بحيث يصعب فكّ الارتباط بينهما؟ وكيف يبرّر «الحزب» هذا التشابك؟
 

 


وتالياً، هل صحيح أنّ حلّ معضلة التهريب يستدعي التواصل والتنسيق مع دمشق، فيما يستطيع لبنان ضبط الأمور بنسبة تقارب الـ90% لمجرد اتخاذ الدولة و«حزب الله» وإيعازهما بأنّ القرار حازم وبأنّ التهريب سيُصنّف مؤامرةً على اقتصاد البلد ولقمة الناس، وأنّ أي متورِطٍ يتمّ توقيفه سيلقى عقوبة قاسية جداً لأنّ خطيئته تقارب الخيانة العظمى.

 


 
وهل يتصوَّر أحد أنّ شخصاً في لبنان يستطيع تحدّي قرار حازم وشجاع من هذا النوع؟ وهل يمكن بسذاجة افتراض أنّ المافيات على الحدود أقوى من الدولة و«الحزب» معاً، أو أنّ القادرين أمنياً على ضبط الحدود بدقة فائقة، والذين يمنعون تسلّل عنصر إرهابي يكاد لا يُرى بالمنظار، يعجزون عن رؤية قوافل الطحين وصهاريج الوقود بطول عشرات الأمتار ووزن مئات الأطنان؟
 

 


وإذا كانت المصلحة العليا للدولة اللبنانية هي في إنهاء هذا الواقع وحماية المواد التموينية التي يدعمها مصرف لبنان، أي الشعب اللبناني، فهل هذه المصلحة هي نفسها المصلحة العليا لـ«حزب الله»، وكيف يُترجم ذلك؟

 


 
واستطراداً، إذا أصرّ المجتمع الدولي، أي صندوق النقد الدولي، على ضبط التهريب لكونه أحد مزاريب الهدر والفساد، وبناءً على منطلقات تقنية لا سياسية، أي لأنّه في المبدأ لا يمنح القروض لدولٍ يمكن أن تهدرها في أقنية الفساد، فهل ستتجاوب معه الحكومة أو ستقف مربكةً بينه وبين «حزب الله»، وتغامر بنسف المساعدات من أساسها؟

 


 
وما هو موقف لبنان الرسمي من الاتجاه السائد في نيويورك، وفي جلسات النقاش الأخيرة في مجلس الأمن، حيث تضغط الولايات المتحدة لـ«شدشدة» مهامّ «اليونيفيل»، في ضوء التقارير التي تحدثت عن تراخيها في السنوات الأخيرة مقابل تمدُّد نفوذ «الحزب»، في مناطق عملها؟ وكيف سينعكس ذلك على قرار التمديد لـ«اليونيفيل» التي تنتهي ولايتها في آب المقبل؟

 


 
وتالياً، ما سيكون موقف الحكومة من احتمال أن يطرح المجتمع الدولي، ومن ضمن منطوق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701، توسيع مهام «اليونيفيل» لتساعد الجيش اللبناني في صيانة الحدود شرقاً وشمالاً أيضاً؟ وهذا الأمر سبق أن طُرِح مراراً على لبنان، وشجعته قوى 14 آذار في بعض المراحل، لكنه بقي يُرفض دائماً.
 


واللافت هو أنّ بيان «مجموعة الدعم من أجل لبنان» يتبنّى تماماً الاتجاه الدولي في الدعوة إلى التزام القرارات الدولية، مع أنّ المجموعة تضمّ الصين وروسيا أيضاً. كما كان لافتاً طلب المجموعة إشراك «الشعب اللبناني» (على الأرجح، المقصود أصوات الاعتراض على خطة الحكومة) في المفاوضات مع الصندوق.

 


 
ولا يمتلك لبنان ترف أن يتجاهل مطالب المجموع، لأنّه ينتظر منها بفارغ الصبر أن تبادر إلى تحريك المساعدات الدولية، بدءاً بـ«سيدر»، ليسدّ الجوع، ولتحمي تركيبة السلطة نفسها من السقوط.

 


 
بناءً على كل هذه الأسئلة والمعطيات المبدئية، يمكن النظر إلى تأكيد السيد نصرالله، أنّ معالجة التهريب تكون بالتواصل مع دمشق لا بمغامرة الاستعانة بـ«اليونيفيل». فهو سارع إلى دفاع شرس لأنّه يدرك أنّ الهجوم سيكون شرساً.

 


 
الهجوم الشرس لن يكون في أروقة الأمم المتحدة فحسب، ولا في عواصم مجموعة الدعم وحدها، بل أيضاً على طاولة المفاوضات مع صندوق النقد، حيث سيختلط الحابل بالنابل: الأرقام والبرامج الإصلاحية والشروط السياسية كلها في سلَّة واحدة. وسيكون مكتوباً على اللافتة المرفوعة على رأس طاولة: هناك العصا وهناك الجزرة. إني خَيَّرتُكم فاختاروا!