لو صحّ التبسيط الكامل في الكلام السياسي لأمكن القول أن لبنان كدولة وقع في فراغ استراتيجي: انهيار  الأسس السياسية و المالية الداخلية دون إمكان إحداث بديل إلا بانتداب خارجي يعيد إمساكه و"يوجِد"طبقةً سياسيةً جديدةً وبنية جديدة للقطاع العام.


هذا يعني أن هناك تفاسير متعددة ومعقّدة لهذا التبسيط.

 


 ⁃ عجز الداخل عن إنتاج بديل أو تعبئة الفراغ. المثال الأخطر والأكثر عمقاً مأساويًا هو ثورة 17 تشرين التي رغم نجاحاتها في إطلاق ديناميكيات توحيدِ و رقابةِ وحيويةِ أفتى جيلٍ شبابيٍّ في المجتمع اللبناني، بقيت وتستمر عاجزة عن تعبئة الفراغ.

 


 ⁃ عجز الطبقة السياسية عن التكيف مع تداعيات الانهيار محتفظةً بكل جبروتها الفئوي. وكل يوم لدينا حالة عن زعيم سياسي قوي من حيث فرض إرادته على الدولة التي هي أو أصبحت كليّاً دولةَ الزعماء السياسيين الفئويين وفي الوقت نفسه، بل وفي كل وقت، هي ليست دولتهم. 

 


 ⁃ دولة إذن تافهة ويتيمة في آنٍ معاً. كل يوم تُختبَر تفاهةُ الدولة في معظم ميادين وظائفها الأساسية. وكل يوم يتأكّد يُتْمُها. 

 


لكنه فراغ استراتيجي داخلي وليس خارجيًا. فلبنان في قلب صراع خارجي أميركي سعودي - إيراني حيوي عليه ولذلك فالفراغ الاستراتيجي داخلي، أي مقومات الدولة المهزوزة، وليس فراغاً خارجيا. الصراع الخارجي يساهم في كشف عناصر ضعفه لكنه لا يخلقها. 


التعبير الرائج الذي يرثه أصدقاء الراحل سمير فرنجية هو البحث عن "شبكة أمان" لإبقاء هذه المقوِّمات. لكن تعبير "الكتلة التاريخية" ربما هو أنسب في السؤال عن إمكان قيام كتلة جديدة تستطيع ترسيخ التوازن الداخلي بل تُؤسِّس توازناً جديداً.


كانت هذه مهمة 17 تشرين عندما كشفت بشكلٍ كامل وأخّاذ مدى السقوط الأخلاقي السياسي للطبقةالسياسية التي تدير الوضع اللبناني.


لكن 17 تشرين بدت مع الوقت ثروةً تغييريةً جيليّةً. أكثر منها ثورة. لا خطأ طباعيّاً هنا. نعم ثروة جيليّة لاثورة. ثروة من  تراكم تحديثي لكفاءات وحيوية جيل بكامله نشأ في أحضان طبقة وسطى لبنانية عاشت على تقاليد متعددة تعليمية ووظيفية ودياسبورية وتعايشت، جيل الآباء بجمع المذكّر والمؤنّث، مع ممارسات قوى الحرب فتكيّفت مع عجزها الدولتي ولكن راكمت عبر أبنائها تطلعات علمانية انكبحت في المسار الطائفي المذهبي للحرب الأهلية عام 1975.

 


الثروة التعليمية للطبقة الوسطى اللبنانية قامت بالثورة، بمحاولة الثورة، ثورة 17 تشرين. فهل خلطنا بين الثروة الجيليّة والثورة. هذا ليس استباقاً للنتائج لأن الانهيار الذي أوصلتنا إليه الطبقة السياسية وتحميل لبنان ما لا طاقة له على التحمل من الصراعات والأمجاد الأيديولوجية و الانفصالات الأمنية يضعان مهمة هذه الثورة التغييرية في وضع صعب للغاية.

 


انهيار سعر الليرة اللبنانية كان أحد الحلول غير المعلنة للحد من التضخم المالي للقطاع العام بحيث تنخفض الرواتب مرة جديدة ودون ما كانت عليه حتى قبل إقرار سلسلة الرتب والرواتب. ومثلما تقضي الحروب على التجمعات السكانية العشوائية المخالفة للقانون ، يقضي الانهيار المالي، الذي يبقى تجميد ودائع القطاع المصرفي فضيحته بل جريمته الكبرى، يقضي هذا الانهيار على ما تعتبره البورجوازية الطفيلية المستفيدة من الطبقة السياسية "عشوائيات" القطاع العام في نظرة لا ترى غير الرواتب  هي وحدها المشكلة لا الهدر والفساد. طبعاً هناك مشكلة حقيقية في التوظيفات الزبائنيّة التي بلغت حداً غير مسبوق و هذه هي أحد عناصر الانهيار لا مسبِّبه الأكبر طبعاً.

 


لكن المجتمع اللبناني بكامله في أزمة عاصفة جعلتها أزمةُ وباء كورونا العالمية شديدة الوطأة. فكم على الثورة المبارَكة أن تحمل على كتفَيْها؟ عجز الأجيال أم عجز دولة صغيرة عن صناعة مصيرها بنفسها، أم عجز المحيط العربي المتمثل بالتفكك والفقر والفشل الوطني؟

 


هل يعقل أن يكون كل هذا الحمل على أكتاف هؤلاء الشباب الشجعان والمتنورين والأكفاء الذين نزلوا إلى شوارع مدنهم الصغيرة والكبيرة منذ 17 تشرين يريدون تغيير قواعد لعبة قذرة وانضمت إليهم قوافل مُفقَرين وجائعين؟