بالتأكيد، إنّ اعتراف «حزب الله»، للمرة الأولى، بـ»خطيئة عدم التدقيق في ما كان يُقال بشأن الوضع النقدي»، بعد العام 2005، هو أخطر ما جاء في مقابلة النائب محمد رعد، قبل يومين، مع «إذاعة النور». ولكن، يجدر التركيز أيضاً على دعوته إلى «الحذر من صندوق النقد، لأنّه أداة للنفوذ الأميركي»، وقوله: «نحن لدينا البديل من الذهاب إلى الصندوق، لكن السلطة غير مقتنعة حالياً بالبدائل التي نطرحها عليها».

 

العارفون يقولون: في ظلّ المعطيات الداخلية القائمة، أي في ظلّ التركيبة الفاسدة والفاشلة، ليس هناك مجال للاستغناء عن صندوق النقد. فقبل أسابيع قليلة، كانت ترفض المساعدة المالية من الصندوق، وتكتفي بالمشورة التقنية. ولو كانت قادرة على الاستغناء عن الصندوق، لما اضطرت إلى إرسال طلب الدعم المالي، وجهَّزت خطةً مالية يُراد منها مخاطبة الصندوق لا أكثر.

 

أدركت السلطة أنّ أبواب المساعدات الخارجية مقفلة تماماً، إلّا إذا مرّت بمعمودية الصندوق. وبعبارة أكثر دقّة، مساعدات الصندوق ستكون في حدّها الأقصى ضمن الملياري دولار سنوياً، لـ5 سنوات. وهذا لا يكاد يغطي الحاجة إلى شراء المواد الأساسية، كالدواء والقمح والوقود، فيما مساعدات «سيدر»، في أفضل الأحوال، ستصبّ في دعم البنى التحتية، أي في تنشيط الحركة الاقتصادية، ولكنها لن تكون من أدوات القطاع المالي والمصرفي بشكل مباشر.

بالتأكيد، يناسب «حزب الله» تدبير تسوية للمأزق المالي يقوم على شقّين:

 

- داخلياً، توزيع الخسائر على أطراف الأزمة، بما يؤدي إلى تأجيل الانهيار مجدداً، والارتكاز خصوصاً على تحميل مصرف لبنان والقطاع المصرفي الثمن الأكبر.

 

- خارجياً، فتح جسور جديدة بين لبنان والقوى التي يمكنها تشكيل بديل من الولايات المتحدة والغرب، خصوصاً مع بدء الأوروبيين سياسة متشدّدة تجاه «الحزب»، أطلّت ملامحها من برلين قبل أيام.

 

طبعاً، إيران هي طليعة القوى التي يشجعّ «الحزب» انخراطها في إنقاذ لبنان. لكنّ الأمر لطالما اصطدم بعواقب المواقف الغربية، ولاسيما موقف واشنطن.

 

كما حاول عهد الرئيس ميشال عون أن ينفتح على موسكو ويمنحها دوراً في الواقع السياسي والاقتصادي (شركات تجارية واستثمارات مالية ونفطية) وحتى في الحصول على دعم عسكري للجيش اللبناني. لكن زيارة عون لروسيا مسّت بحساسية العلاقة بين الولايات المتحدة ولبنان. فجرت فرملتها سريعاً، لأنّ حجم المصالح والارتباطات والمساعدات التي يتلقّاها لبنان من الأميركيين لا يستطيع الروس تعويضها.

 

وفي الفترة الأخيرة، تنامت في بيروت أفكار وتوجّهات تدعو إلى فتح الباب لطرفٍ آخر يتعملق دولياً هو الصين. وفي تقدير البعض، أنّ الصين المتعطشة إلى ترسيخ أقدامها في الشرق الأوسط وإفريقيا، ستقدّم كل دعمٍ للبنان كي تتمكن من تحقيق هذا الهدف. ومن الحكمة أن يستفيد اللبنانيون من لحظة التقاطع في المصالح معها.

 

ويستعدّ الصينيون، من خلال علاقات جيدة مع إسرائيل، للاضطلاع بدور في مشروع الشرق الأوسط المقبل، بعد التسوية. وفي جعبتهم مشاريع طموحة، أبرزها في مجال المواصلات، كالمطارات والموانئ إضافة إلى مشروعهم الأساسي، خط السكة الحديد الذي يشكّل إحياءً لطريق الحرير التاريخية.

 

وقد تردّد الكثير في لبنان عن استعدادات الصين لتقديم تسهيلات غير مسبوقة في المجال الأكثر إيلاماً، أي الكهرباء، إضافة إلى العديد من المجالات الأخرى، بما فيها التعاون الثقافي والأكاديمي.

 

وفي لحظات معينة، اعتبر العديد من المحللين، في البيئة الحليفة لإيران وخارجها، أنّ الصين يمكن أن تشكّل بديلاً من الغرب في لبنان أو طرفاً موازياً، خصوصاً إذا شاءت الظروف أن ينشأ تردُّد أو فتور في العلاقات مع موسكو، نتيجة تباين المصالح القائم في سوريا بين روسيا وإيران، والسكوت الروسي عن الضربات الإسرائيلية لمواقع إيران و»الحزب» هناك.

 

هل يبدو واقعياً رهان البعض على الصين، بعد روسيا، بحيث يمكن الاستغناء عن «خدمات» صندوق النقد الدولي، واحتمالات أن يقود إلى تدعيم نفوذ الولايات المتحدة في لبنان؟

 

حول هذه المسألة، ينقل أحد الخبراء الغربيين مناخات جرى التعبير عنها في العديد من المواقع المؤثرة في القرار الأميركي، ومفادها أنّ واشنطن تترقَّب بدقّة كيف سيتجّه لبنان في علاقاته الإقليمية والدولية. وهي تعتبر أنّ «حزب الله»، صاحب النفوذ الحقيقي في حكومة الرئيس حسّان دياب، هو الذي يمتلك القدرة على تحديد الاتجاه.

 

وفي رأي هذا الخبير، أنّ لبنان، إذا مضى في التأرجح بين الخيارات العقيمة، فسيكون مرشّحاً للذهاب أكثر فأكثر نحو الهاوية، في ظل اهتراء شامل، حيث المستثمرون يغادرون بأعداد كبيرة، و75% من الشعب بات تحت خط الفقر، والديون تفوق الـ 170% من الناتج المحلي، والليرة تنهار سريعاً ويتحوّل الناس إلى أفواه جائعة.

 

فكل هذه الخيارات الخارجية لا تلغي الحاجة إلى الإصلاح كخيار وحيد واضطراري. ولا يمكن الاعتماد على أي منها ما دامت تتحكّم منظومة الفساد بمواقع السلطة السياسية والمالية.

 

ومن المستغرب، فوق كل ذلك، أن يفترض البعض أنّه يستطيع إملاء شروطه على صندوق النقد الدولي الذي يبقى، على رغم كل المآخذ، ضماناً وحيداً لإنهاء الفساد ووقف الانحدار. وبالتأكيد، سيكون هناك إشراف حقيقي على كل الحسابات التي مضت والتي ستأتي، ولن تكون هناك فوضى مع الصندوق كما كان الأمر قبله.

 

ويضيف الخبير: كثيرٌ من أركان الحكومة يفكّرون في الهرب من المطالب الدولية باللجوء إلى بكين. وحتى بعض المحسوبين على خط الحكومة السابقة، حكومة الرئيس سعد الحريري، كان قد تحدث قبل عام عن أهمية ما تقدّمه الصين في صفقات ميناء طرابلس، وبناء سفارة جديدة، وإنشاء بنك استثماري صيني.

 

ولكن، سيعني «انقلاب لبنان» أنّه خرج من منظومة الدعم الغربية والخليجية التقليدية إلى الحلف المعاكس. وهذا رهان خطِر، لأنّ الولايات المتحدة وحليفاتها لا تزال ركيزة الاستقرار اللبناني سياسياً ومالياً واقتصادياً وعسكرياً.

 

فإذا سحب الأميركيون والحلفاء أيديهم، سيكون لبنان أمام خطر حقيقي. ويذهب بعض الخبراء في واشنطن إلى القول: «ستصبح الدولة اللبنانية روبوتاً هجيناً إيرانياً - صينياً، وسيكون لبنان مرشحاً للانضمام إلى أفغانستان وليبيا واليمن وغيرها، ويصبح حلقة أخرى من حلقات التهديد العالمي والبؤس المحلي».

 

وهذا هو التحدّي لعدم سقوط لبنان في الهاوية. فهل يتحمّل أركان السلطة مسؤولياتهم؟ وإلى أي حدّ ستتجاوب واشنطن وحلفاؤها؟