تُرى، لو أنّ الحاكم رياض سلامة قال للمسؤولين على مدى العشر سنوات الماضية: لا يلزمني سفن كهربائية، ولا سدود مائية، ولا رواتب الموظفين الخيالية، ولا مواكب أمنية ولا أسفار خارجية، ولا جمعيات خيرية، ولا مهرجانات سياحية، يا هل ترى: هل كانوا سيجرّونه من رجليه، وإلقائه خارج مبنى المصرف.
 

تُذكّرنا حادثة التّعرّض لحاكم مصرف لبنان المركزي الدكتور إدمون نعيم (الذي شغل منصب الحاكم بين عامي ١٩٨٥-١٩٩١)، بالرواية التي تتحدث عن تعرّض الأمير البويهي مُعزّ الدولة للخليفة العباسي المُستكفي، فالحاكم نعيم تعرّض لاعتداءٍ آثم في ١٥ آذار عام ١٩٩٠، وهذا الإعتداء أوعز به وزير الداخلية آنذاك الياس الخازن، بسبب رفض نعيم طلب توفير الأموال اللازمة لطباعة مليون جواز سفر حسب ما قِيل آنذاك، فتمّ اقتيادهُ من قِبل قوة أمنية وسحبه من رجليه من مكتبه في الطبقة السادسة حتى الطبقة الأولى، حتى تمكّن بعض الموظفين من تحريره من بين أيديهم، وفي روايةٍ أخرى أنّ حرس المصرف اضطرّ لإطلاق النار من أجل ذلك.

 

 أمّا رواية التّعرّض للخليفة العباسي المستكفي، والمشابهة لحادثة التعرض للحاكم نعيم، فهي كما وردت في تجارب الأمم لمسكويه:
فلمّا كان يوم الخميس لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة، انحدر الأمير معزّ الدولة إلى دار السلطان،  وانحدر الناس على رسمهم، فلما جلس المستكفي بالله على سريره، ووقف الناس على مراتبهم، ودخل أبو جعفر الصيمري وأبو جعفر ابن شيرزاد، فوقفا في مرتبتهما، ودخل معز الدولة فقبّل الأرض على رسمه، ثم قبّل يد المستكفي بالله، ووقف بين يديه يُحدّثه، ثم جلس على كرسي، وأذن لرسولٍ كان ورد من خراسان، ورسولٌ ورد من من أبي القاسم البريدي، فتقدّم نفسان من الدّيلم، فمدّا أيديهما إلى المستكفي بالله، وعلا صوتهما فارسيّةً، فظنّ أنّهما يُريدان تقبيل يده، فمدّها إليهما، فجذباهُ بها وطرحاهُ إلى الأرض، ووضعا عمامته في عنُقه وجرّاه. فنهض حينئذ معز الدولة واضطرب الناس وارتفعت الزّعقات.

 

وتبادر الناس إلى الباب من الرّوشن، فجرى أمرٌ عظيم من الضغط والنّهب، وساقَ الديلمان المستكفي بالله ماشياً إلى دار معز الدولة، واعتُقل فيها ونُهبت دار السلطان، حتى لم يبقَ فيها شيء، وانقضت أيام خلافة المستكفي بالله.

 

إقرأ أيضًا: حالُ اللبنانيين اليوم..من لم يمُت بالكورونا مات جوعاً على أبواب المصارف

 

أمّا حوادث التعرض المتمادية والمستمرة منذ فترة طويلة للحاكم الحالي لمصرف لبنان المركزي السيد رياض سلامة، فتُذكّرنا بحادثة طلب الأمير البويهي "بختيار" المال من الخليفة العباسي "المطيع" للقيام بإحدى غزواته، فأجاب الخليفة:
إنّ الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وإليّ تدبير الأموال والرجال، وأمّا الآن وليس لي منها إلاّ القوت القاصر عن كفائي، وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف، فما يلزمني غزوٌ ولا حجٌ، ولا شيئٌ ممّا تنظر الأئمة فيه، وإنّما لكم منّي هذا الإسم الذي يُخطبُ به على منابركم، تُسكّنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن أعتزل، اعتزلتُ عن هذا المقدار أيضاً وتركتكم والأمر كلّه، وتردّدت المخاطبات في ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرفٍ من أطراف الوعيد، واضطر إلى التزام أربعمائة ألف درهم، باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره، وشاع الخبر ببغداد بين الخاص والعام أنّ الخليفة صودر وكثّرت الشّناعات. 

 

تُرى، لو أنّ الحاكم رياض سلامة قال للمسؤولين على مدى العشر سنوات الماضية: لا يلزمني سفن كهربائية، ولا سدود مائية، ولا رواتب الموظفين الخيالية، ولا مواكب أمنية ولا أسفار خارجية، ولا جمعيات خيرية، ولا مهرجانات سياحية، يا هل ترى: هل كانوا سيجرّونه من رجليه، وإلقائه خارج مبنى المصرف المركزي، ربما..ولربما كان ذلك أشرف له وأكرم، ذلك أنّ الخليفة الذي لقبوه بالمطيع، خرج عن طاعتهم وقال" الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وإليّ تدبير الأموال والرجال". هلّا خرجتَ عن طاعتهم يا سعادة الحاكم الذي لا يحكم، وللتّذكير أيضاً، فقد عقّب المفكر العربي الراحل محمد أركون على أحوال الخلافة العباسية في زمن ضعفها وانحلالها بعد حوادث التعرض للخلفاء بالقول: هكذا راحت الأنظمة العسكرية، أنظمة الجيوش المرتزفة والمأجورة، تفرض نفسها على السّكان العُزّل، المُتعوّدين منذ فترةٍ طويلة على فكرة الشرعية والمشروعيّة والمتعلقين بها إلى حدّ القداسة.

 

للأسف الشديد، الحاكم غير الشرعي يُحاكم اليوم الحاكم الشرعي، الذي باتت شرعيته في مهبّ الريح.