بمعزل عن شكل ومضمون الرد الذي تقدّم به حاكم مصرف لبنان رياض سلامه في إطلالته امس، فقد بات موضوع إقالته او دفعه الى الاستقالة مهمة حكومية مستحيلة. وهو ما أدى الى سحبها من التداول لتواجه الحكومة استحقاقات أخرى من دون ان تقدّم اي مؤشر الى قدرتها على مقاربتها نتيجة التخبّط الذي تعيشه من الداخل في سعيها الى مكافحة الفساد واستعادة الاموال المنهوبة. فعلى ماذا بنيت هذه النظرية؟
 

قدمت «حكومة مواجهة التحديات» في مسلسل الجلسات المخصصة أنموذجاً لعدم قدرتها على التوافق لاتخاذ التدابير «الآنية والفورية» لمكافحة الفساد واستعادة الاموال المتأتية منه، بحسب ما تقضي المقترحات الخاضعة للمناقشة في جلساتها الماراتونية. ودلّت المؤشرات الأولية الى نوع من التخبّط في مقاربتها بدءاً من ظاهرة تعميمها على الوزراء قبل أسبوعين كـ»أوراق يتيمة» لا تشير الى الجهة التي اقترحتها، رغم انها نوقشت في اكثر من خلوة ولجنة وزارية مكلفة اعداد الخطة الاقتصادية الشاملة التي تعهّدت بوضعها ضمن مهلة الأيام المئة الأولى من ولايتها ولم تصدر بعد من اجل تسويقها لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وامام الجهة المكلّفة متابعة مقررات مؤتمر «سيدر» للحصول على الدعم المالي لها.

 

ليس في ما سبق ما يشير الى اتهام ظالم بلا إثبات، فقد تسبّب طرح الأفكار السبعة بداية بأزمة بقيت في الكواليس بين رئيس الحكومة حسان دياب ورئيس مجلس النواب نبيه بري وترجمها تهديد وزيرَي حركة «أمل» في الحكومة بالاستقالة نتيجة ما في هذه المقترحات ممّا سمّياه «تجاوز صلاحيات وزير المال ودوره» في توجيه اعمال البحث عن التحويلات المالية الى الخارج، او البحث عن مال موهوب او منهوب.

 

وبعدما تجاوزت الحكومة هذه العقبة بإعادة الحق الى وزير المال في كل من الاقتراحات المطروحة للبحث، ظَهر عيب آخر عندما قيل انّ وزيرة العدل ماري كلود نجم هي التي اقترحت هذه الإجراءات المطروحة للبحث فيها قبل ان يتسرّب من محضر جلسة مجلس الوزراء أمس الأول قولها انّ تنفيذ هذه التدابير السبعة لاستعادة الاموال المنهوبة «أمر صعب وغير فعّال»، وانّ الورقة التي تخضع للنقاش «غير نافذة قانوناً». كان ذلك قبل ان تنفي عبر «الجمهورية» انها إجراءات سياسية تستهدف فريقاً معيّناً من اللبنانيين، مع اعترافها بأنها اقتراحات «لا تحتاج الى تشريع في مجلس النواب وليست شعبوية». موضحة انّ المقصود منها البدء جدياً في مكافحة الفساد، لكنها وفي الوقت عينه لفتت الى وجود مجموعة من القوانين «التي علينا تفعيلها ومنها قانون التهرّب الضريبي الذي سيساعد على استرجاع اموال الدولة». كذلك ظهر جلياً عدم علاقة وزيرة العدل بما هو مطروح للبحث، عندما بلغت المناقشات قانون الإثراء غير المشروع (القانون الرقم 154). فهي لم تتمكّن من شرح النصوص القانونية الواردة في هذا التدابير رداً على اسئلة بعض الوزراء، فخرجت غير مرّة من الجلسة لإجراء بعض الاتصالات لتوفير الردود على هذه الاسئلة.

 

والى هذه الملاحظات المبنية على وقائع من جلسة مجلس الوزراء ما قبل الأخيرة، لا يمكن تجاهل ملاحظات مجموعة وزراء يمثّلون كلّاً من حركة «امل» و»حزب الله» و»المردة» إضافة الى وزيري رئيس الحكومة الذين التقوا على رفضهم تحوّل مجلس الوزراء «ضابطة عدلية» عندما يتجاوز ادوار السلطة القضائية. وهو امر ظهر عند البحث في التدابير الآنية لاستعادة الاموال المنهوبة، وخصوصاً لجهة الصلاحية في ملاحقة الاثراء غير المشروع والاستقصاء عنه، فانتهى النقاش الى رفض الوزراء القيام بأيّ مهمات «من خارج صلاحياتنا كمجلس للوزراء». وهو ما عبر عنه بقوة وزير الاشغال العامة ميشال نجار الذي قال: «يجب ان نحافظ على صدقيتنا، ولا يمكن لنا مصادرة قوانين وتبنّي قوانين ليست من صلاحياتنا وتتضارَب مع السلطة القضائية، مخافة ان تتحوّل الى محط انتقاد كما حصل من قبل». وأضاف انه من المهم جداً «الّا نقوم بدعسة ناقصة حتى لا تنقلب الامور علينا، ويجب ان نتخذ قرارات قابلة للتنفيذ وليس فقط من اجل إسكات الشارع».

 

وبمعزل عن مجمل هذه الملاحظات فقد التقت مراجع دستورية وقضائية مع ما جاء على لسان بعض الوزراء في الجلسة، لجهة انتقاد ما هو مطروح للبحث مخافة وجود تضارب في الصلاحيات بين دور المجلس والسلطات القضائية والادارية. ومردّ الإنتقاد يعود الى اعتبار خبراء كبار في الدستور والعمل القضائي انّ مثل هذه الاقتراحات المطروحة للبحث تحت شعار مكافحة الفساد وغيرها من الاهداف المرسومة لها، والتي لا يمكن مقاربتها بـ»المفرّق» لأنها سلسلة متكاملة لا يجوز الفصل في ما بينها. ولفتت هذه المراجع الى انه لا يمكن الحكومة ان تتناول ما هو مطروح بالتقسيط. وسألت: كيف يمكن الحكومة ان تبحث في قانون الاثراء غير المشروع مثلاً من دون البحث في موضوع قانون السلطة القضائية ورفع الحصانات عن الوزراء والنواب الذي رفضه مجلس النواب في جلسته التشريعية الأخيرة. فكلها قوانين مترابطة واي تعديل في اي منها لا يجوز ما لم يتناولها جميعها منعاً لأيّ تَضارب في الصلاحيات، في اعتبارها تحدّد مساراً واحداً لا بد من ولوجه من دون تردد.

 

وسألت المراجع القضائية: «كيف يمكن اللجوء الى تشكيل لجان سواء باقتراح وزيرة العدل او وزير المال للقيام بمهمات تعقب واستقصاء عن مصير المال العام في ظل وجود هيئات رقابية قيل إنها جاءت بالكفايات الى مواقع المسؤولية فيها؟ معبّرة عن مخاوفها من ان تتكرر التجربة التي تعرّض لها مجلس القضاء الأعلى الذي أشادت السلطة الحالية بأهمية وشفافية ومناقبية من جِيء بهم رئيساً واعضاء قبل ان يلجأوا الى كل الأساليب التي أدّت الى عرقلة التشكيلات والمناقلات التي وضعها بطريقة مخالفة لكل القوانين المرعية، وخصوصاً عند اللجوء الى مواد تحدثت عن ضرورة استمزاج رأي وزيرَي العدل والدفاع او اقتراح اسماء القضاة سواء في القضاء العدلي او العسكري بعد سنوات على إلغائها وتعديلها. وهو ما أدى الى الفصل بين مرسومي المحاكم العادية والعسكرية في مخالفة هي الاولى من نوعها رغم الحاجة الى البَت بها في وقت واحد ودفعة واحدة، الأمر الذي يقود الى نتائج تنعكس سلباً على أداء الإدارة والقضاء والعمل الحكومي كاملاً. وتنتهي المراجع الى القول انه «من المهم جداً التنبّه الى كل هذه الملاحظات التي لم تراع ايضاً في المواجهة مع حاكم مصرف لبنان. فطالما انّ الجميع يدرك عدم القدرة على إقالته، فلماذا لم تلجأ السلطة التي تريد إقالته او دفعه الى الاستقالة الى تعديل قانون النقد والتسليف قبل طرح ايّ من الخيارين ليستقيم العمل الحكومي ولإبعاد الشبهات السياسية والكيدية عن قراراتها لتربح اي مواجهة مقبلة، وإلّا لن يكون لها حظ الفوز في أيّ منها.. ومَن يعش ير؟!.