أخطر ما يتردَّد هذه الأيام هو أنّ الحلّ المالي - النقدي - الاقتصادي الذي يقود إلى الإنقاذ سهلٌ جداً، ولكنه ممنوع. وأنّ هناك مَن يريد إيصال البلد إلى الانهيار التامّ، بل التفكُّك، ليصبح سهلاً إخضاعه أو شراؤه عند «إعادة التأسيس».
 

ثمّة استغراب في بعض الأروقة الديبلوماسية الأوروبية في بيروت حول الطريقة التي يتعاطى بها أركان السلطة مع ملف الانهيار المالي. ويقال: لا يحتاج لبنان إلى مزيد من المشاريع والأفكار الإنقاذية، فقد زوَّدنا السلطات اللبنانية كثيراً من النصائح والخبرات لطريقة الخروج من الأزمة. كما أنّ هناك خبراء كباراً، لبنانيين وأجانب، طرحوا أفكاراً إنقاذية مضمونة وبرامج واضحة. ووفق هذه الأفكار، يمكن في أسابيع قليلة وقف التدهور، وفي أشهر قليلة بدء الانفراج، وفي سنوات قليلة الانطلاق في الازدهار الحقيقي».

لكنّ المثير هو التخبّط الذي تقع فيه السلطة وعدم إقدامها - قصداً- على سلوك أي حلّ. وهذا ما يطرح سؤالاً مُهِمّاً: هل صحيح أنّ الأقوياء في السلطة يراهنون على الانهيار والتفكُّك كما يفعل أي لاعب في البورصة: يَنتظر هبوط الأسعار إلى الحضيض لكي يشتري؟

في هذا الشأن، يوجِّه البعض أصابع الاتهام نحو «حزب الله»، ويقول: «ليس هناك أي طرفٍ آخر يمتلك النفوذ في مؤسسات الدولة وعلى الأرض في الوقت الحاضر. وليس هناك مَن يضاهي «الحزب» في القدرات المالية التي يتلقّاها من إيران.

ولذلك، هو لن يفوّت فرصة انهيار المرافق والقطاعات، ولا سيما القطاع المصرفي، ليضع يده عليها أو على الأقل ليصبح أقوى اللاعبين عند إعادة بنائها، ولمصلحة الحليف الإقليمي إيران».

هذا الاتهام يُقابله رَدّ جاهز من «حزب الله» يحتفظ به منذ تسعينات القرن الفائت، عندما أطلق الرئيس رفيق الحريري مشروعه الاقتصادي.

يقول «الحزب» إنّ الفلسفة التي قام عليها المشروع الحريريّ هي التأسيس لاقتصاد ريعيّ لا منتج، قوامه الخدمات والبورصة والهندسات المصرفية، وتمّت السيطرة على مرافقه الأساسية، لإفقاد لبنان مقوِّمات صموده الحقيقية. أمّا الدين العام الذي كان يتفاقم سنوياً فكان يتمّ الاتكال على مشروع السلام الشرق أوسطي من أجل إطفائه.

كان الحريري يقول: «السلام آتٍ إلى المنطقة قريباً، وسنقبض ثمن انخراطنا فيه عشرات المليارات من الدولارات، كما كل البلدان العربية الأخرى».

طبعاً، ينظر «الحزب» إلى هذا الأمر بكثير من التشكيك. ويقول إنّ المشروع الحريريّ، الذي ما زال يتبنّاه تيار «المستقبل» وحلفاؤه اليوم، يعني أن يقبض لبنان ثَمن قبوله بالسلام مع إسرائيل، وثَمن توطين الفلسطينيين. وفي رأي «الحزب» أنّ هذا الأمر لم يعد مجرد تخمين، بل أكّدته «صفقة القرن» التي أُعلِنت مطلع العام الجاري.

لذلك، في تقدير «الحزب» أنّ خصومه الذين يتحكَّمون بالقطاع المصرفي، تدعمهم قوى دولية وعربية، يخططون أيضاً للسيطرة على المرافق العامة من خلال الخَصخصة، وبأبخس الأسعار. وفي رأيه أنّ هؤلاء أوصلوا لبنان إلى الانهيار ليسهل إخضاعُه للمشاريع التي يتمّ تحضيرها للشرق الأوسط.

المراجع الديبلوماسية الأوروبية تستنتج أنّ عمق الأزمة يكمن في أن هناك نزاعاً حقيقياً على لبنان وموارده وموجوداته بين هذين المحورين. وأنّ الأزمة المالية والاقتصادية والنقدية الحالية كانت حُلَّت بسهولة لو كانت ذات أبعاد تقنية فقط، ولا خلفيات سياسية لها. وأساساً، يأتي الانهيار اللبناني في ذروة النزاع الإقليمي - الدولي حول لبنان والشرق الأوسط، وخصوصاً بين إيران والولايات المتحدة.

ولذلك، تواصَلت فرنسا، في الأشهر الأخيرة، مع القوى الكبرى المعنية بالشأن اللبناني في محاولة لفكّ الارتباط بين عملية إنقاذ لبنان والنزاع الأميركي - الإيراني. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب سخونة المعركة الدائرة بين المحورين.

ويعتقد بعض الأوساط أنّ النزاع للسيطرة على لبنان في المرحلة التأسيسية الآتية هو اليوم في الذروة. وفي مرحلة التفكّك يريد الجميع أن يحصلوا على أكبر مقدار من «ميراث» الدولة المنهارة. فهو بلد صغير، ويمكن للقوى الخارجية أن تتقاسَم موارده ومرافقه، إذا قررت شراءها.

ومع البرودة المبدئية التي أصابت المعنيين المتحمّسين للاستعانة بموارد الغاز والنفط، سيكون إجبارياً أن يلجأ لبنان إلى الجهات الخارجية للاستثمار في مجالات الخصخصة وإعادة الهيكلة التي تقدَّر أكلافها بعشرات المليارات.

ولا قيمة للأموال المنتظرة من الصندوق الإنقاذي المنتظر تشكيله إذا لم يكن الشارون أجانب، لأنّ الإنقاذ يستدعي دخول عشرات المليارات من الدولارات الطازجة، مصدرها الخارج.

إذاً، يبدو الانهيار اللبناني مناسباً لعدد من القوى الداخلية والخارجية التي تخطّط للسيطرة على موارد لبنان وموجوداته. وليس واضحاً إذا كانت هناك فرصة للتفاهم بين هذه القوى على تقاسم البلد، أو أنّ سخونة النزاع الداخلي والخارجي ستدفع الجميع إلى خياراتٍ صدامية تعطّل كل شيء.

في هذه الحال، سيتفكَّك البلد من دون أن تكون لأحد القدرة على إعادة بنائه، وسيسقط السقف على رؤوس الجميع، وستكون نار الجوع والإحباط هي الأقوى.