في الأروقة المالية مناقشات متواصلة لا تعترف بعطلة، ومعها تتعدّد المخارج الممكنة جرّاء الاقتناع باستحالة فرض «الهيركات» على حسابات ما فوق الـ 100 الف دولار، فارتفعت الضمانات من 90% من الودائع الى 99% منها. لذلك أعيد النظر بما هو مطروح وتعدّدت البدائل، وخصوصاً عندما ظهرت الأخطاء المرتكبة في تقرير «لازارد» وتقديره لحجم الديون الهالكة. وعليه، ما هو المطروح؟
 

قبل الدخول في أية تفاصيل، يجب الإشارة الى طريقة ولادة بعض الأرقام التي تحدث عنها البعض في الأيام القليلة الماضية ووحّدتها بعض التقارير. ومنها ما جاء في مسودة الخطة الإقتصادية التي تعدّها الحكومة، كما في تقرير مؤسسة «لازارد» المكلفة تقديم الإستشارة المالية للحكومة في مفاوضاتها مع حاملي سندات «اليوروبوندز» في قابل الأيام. فالحديث عن 83 مليار دولار، المُجمع عليه كحجم للخسائر التي تكبّدها مصرف لبنان والمصارف اللبنانية، نتيجة قصور الدولة عن الإيفاء بديونها، هو رقم مشكوك في دقّته.


 

ولذلك انصَبّت الاهتمامات على سدّ الخسارة المقدّرة بـ 63 مليار دولار، بعدما شُطب من هذا المبلغ 20 ملياراً، يمكن توفيرها من مالكي الاسهم واصحاب المصارف، وممّن يرغب من المودعين الكبار طوعاً الاكتتاب برأسماله، وهي عملية باشَرتها المصارف تحت شعار رفع رأسمالها. وعندها، لجأت خطة الحكومة ومعها «لازارد»، وقبل البحث عن مصادر وموارد أخرى، الى اقتراح بفرض «الهيركات» على حسابات الودائع التي تفوق الـ 100 الف دولار وما دونها بقليل، لتوفير الخسائر المقدّرة بـ 63 مليار دولار من حسابات 10% من المودعين، في عملية حسابية بسيطة لا يتوافر من دونها المبلغ المطلوب.

 

وهي معادلة قادت الى حديث رئيس الحكومة ومعه عدد من المسؤولين، رداً على النقمة السياسية والشعبية التي ظهرت بقوة، عن ضمانات يمكن تقديمها بعدم المسّ بحسابات 90% من أصحاب الودائع. وهو ما تحدثت عنه الورقة الاقتصادية في صفحتها رقم 19، وكشف عنها رئيس الحكومة عقب جلسة مجلس الوزراء قبل اسبوعين تقريباً، كما أشار اليه تقرير مؤسسة لازارد بـ«صراحة» لم يسبقها اليها أحد.

 

وفي ظل هذه المعمعة، فنّد خبراء ماليون تقرير «لازارد»، الذي حدّد الخسائر بـ 83 مليار دولار، وتوصلوا الى اعتباره فاقداً للصدقية. والدليل انّ التقرير اعتبر ديون الدولة (المقدّرة بـ 37 ملياراً) هالكة، بما فيها تلك العائدة لسندات «اليوروبوندز» التي استُحقت والمؤجّلة استحقاقاتها الى 10 او 15 سنة مقبلة. كذلك اعتبر ديون المصارف للقطاع الخاص (المقدّرة بـ 13,3 مليار دولار)، ومنها قروض سكنية، هالكة ايضاً، علماً انّ مثل هذه النظرية خاطئة. فالمصارف التي تتابع تحصيل ديونها، تعرف انّ معظمها سيتمّ تحصيله في وقت لاحق، وانّ هناك ضمانات كافية لمنع احتسابها من الديون الهالكة.

 

كما انّ بعض الخبراء أصرّ في آذار الماضي على عدد من المسؤولين بضرورة عدم التردّد في دفع المستحقات لمالكي سندات «اليوروبوندز» الاجانب، محمّلاً المسؤولية لـ«لازارد» وكلّ من شارك في التخويف من قدرة لبنان على سدادها. فقيمة السندات التي استُحقت في 9 آذار وتلك التي استُحقت قبل يومين في 19 نيسان الحالي، والتي تستحق في 26 حزيران المقبل، ليست كبيرة ويمكن سدادها. فقيمتها لا تتعدّى الـ 750 مليون دولار، وهي متوافرة. وانّه لا يجوز تعريض سمعة لبنان في عالم المال والاعمال للخطر. ولكن اصحاب المواقف الرافضة التسديد، نجحوا في وضع «لازارد» الى جانبهم، عندما قالت كلمتها، فساهموا جميعاً في دفع الحكومة الجديدة، التي لم تكن قد أمسكت بزمام الامور المالية، الى التمنّع عن الإيفاء بها.

 

يومها قال احد الخبراء، انّ نصيحة «لازارد» كانت مشبوهة، وبرّرتها بالقول، انّه لو نصحت بالعكس لفقدت المهمة الاستشارية التي كُلّفت بها ولم تكن هناك حاجة الى المفاوضات مع مالكي السندات. فكلفة ما كان يجب دفعه لا تُقاس بحجم الأضرار التي لحقت بلبنان وسمعته منذ ذلك التاريخ الى اليوم كما في المستقبل.

 

على كل حال، كان لا بدّ من هذا العرض سريعاً للتمهيد الى طَي مرحلة «الهيركات» على حسابات الـ 10% من اصحاب الودائع، للانتقال الى البحث في ما هو مطروح من بدائل، والذي يمكن ان يطاول 1% من اصحابها. وفي التفاصيل، انّه وبعد إبراز الأخطاء الجسيمة التي ارتُكبت، كان لا بدّ من إعادة نظر في بعض الأرقام وتقديم طروحات جديدة، بدأ البحث فيها جدّياً في اكثر من موقع رئاسي وحكومي ومصرفي.

 

وبعض ما هو مطروح يقول بـ»شطب» ديون الدولة لمصلحة مصرف لبنان بـ»الليرة اللبنانية» دون غيرها، والتي تُقدّر بنحو 55 بليون ليرة، اي ما يعادل 35 ملياراً من الدولارات، والتي ان حُسمت من الدين العام البالغ 90 مليار دولار سيقود الى البحث عن طريقة لسدّ الفجوة المتبقية والمقدّرة بـ 55 مليار دولار، وهو الرقم الذي يتساوى وحجم الناتج المحلي، وسيشكّل خطوة إيجابية عند قياس حجم الدين بالتساوي مع الناتج المحلي، وتتراجع كلفة الفوائد عليها بما يُقدّر بملياري دولار. وان بقيت هناك فجوة صغيرة يمكن إقفالها بالهيركات الذي يمكن ان يُفرض على اصحاب الودائع التي تفيض على مليون دولار وهم 1% من المودعين، ويعدّون نحو 21 ألف حساب. والى هذه المعطيات، فإلى ماذا يمكن ان يقود هذا المسار؟

 

من الطبيعي، وباعتراف الخبراء الماليين، انّ هذا المسار سيقود الى خفض مصرف لبنان المركزي الفوائد للمصارف على شهادات الإيداع، التي ستخفض تلقائياً فوائدها على عملائها المدينين. وهو أمر سيؤدي الى اعادة فتح الأسواق المالية العالمية امام لبنان كما بالنسبة الى المؤسسات المانحة، وخصوصاً اذا اقترنت هذه الخطوات بالتواصل مع صندوق النقد الدولي، الذي سيكون عليه أمام هذه المعادلة الجديدة، ان يتطلّع الى الوضع في لبنان بنظرة مغايرة غير تلك التي خَصّه بها حتى الآن. وتحديداً بعد وقف دفع مستحقات سندات «اليوروبوندز» وطلب اعادة هيكلة ديونه. فهو عندها سيخرج تلقائياً من لائحة الدول الفاشلة والمتعثرة التي لا تَفي بالتزاماتها الدولية كما فعلت على مدى تاريخها.