بيننا وبين فلورنسا يا بوكاشيو علامة فارقة فطاعون المدينة حصد الجميع دون تمييز. أما كورونا فحصد الجميع وترك لنا بركة السماء والبشر من رجال الدين الى رجال السياسة .
 

في عام 1348 تفشى في مدينة فلورنسا الجليلة والأروع بين مدن إيطاليا وباء الطاعون المميت حيث حصد ما لا حصر له من الأرواح وواصل تقدمه المدمر وانتشاره المخيف باتجاه الغرب بعد أن ظهر قبل سنوات في أقاليم المشرق . 


ولأن ما كتبه جيوفاني بوكاشيو في كتابه السحري المهيب "الديكاميرون" عن وباء فلورنسا يشبه تماماً فيروس الكورونا دفع الى ضرورة نقل ما قاله أديب إيطاليا منذ 672 سنة لنرى كاتباً يكتب بريشته لا عن طاعون 1348 بل عن كورونا 2020.

 

كتب بوكاشيو : كان الأسى والبؤس عظيمين في مدينتنا، حتى إن سلطة القانون، سواء الإلهي أو البشري، قد انهارت واختفت تماماً، لأن أحبارها والقائمين عليها قد ماتوا أو أصيبوا بالمرض مثل غيرهم من الناس، أو أنهم ابتعدوا بأسرهم . 

 

لقد غادر كثير من الرجال والنساء مدينتهم أيضاً ، فهجروا بيوتهم ، وأملاكهم ، وأقرباءهم ، باحثين في الريف عن ملاذ لهم، كما لو أن غضب الرب الذي يضرب جور البشر بذلك الوباء ، لن يصل إليهم .

اقرا ايضا : قليل من القطران وكثير من الدعاء


ومع أن هؤلاء الذين كانوا يفكرون في طرق مختلفة للنجاة لم يموتوا جميعهم، إلا أنهم لم ينجوا جميعهم كذلك، وإنما مرض كثيرون من أتباع "سُبُل النجاة " وكانوا وهم أصحاء مثلاً يحتذي به من ظلوا أصحاء ، فهجرهم الجميع، ليموتوا متوحدين. 


ولا حاجة للقول إن كل مواطن كان يتحاشى الآخر ، ولم يعد الجار يهتم بجاره ، ولا القريب يزور قريبه إلا في حالات نادرة. لقد ملأ الرعب قلوب الرجال والنساء ، فهجر الأخ أخاه، والعم ابن أخيه ، والأخت أخاها، وكثيراً ما كانت المرأة تهجر زوجها. 


وما أشد خطورة، ولا يكاد يصدق، أن الآباء والأمهات هجروا أبناءهم ، كما لو أنهم ليسوا أبناءهم، وصاروا يتجنبون زيارتهم أو رعايتهم . 

 

قبل الطاعون ، كان من عادة نساء الجيران والأقارب أن يجتمعن في بيت من يتوفى ، ويبكينه هناك مع ذويه الأقربين ، ويجتمع أمام بيت الميت جيرانه وجمع كبير من رجال المدينة. وبعد ذلك يأتي رجال الدين ، حسب مكانة الميت الإجتماعية ، ويحمل من هناك على الأكتاف، في موكب جنائزي تتخلله التراتيل والشموع، ومع الوباء بات الموتى يموتون دون شهود، وقلة هم الذين ينتقلون من هذه الحياة الى الحياة الأخرى، ويجدون من يتحسر على فقدانهم أو يبكيهم بمرارة. اذ كان يتم إخراج جثث الموتى من بيوتهم، و يتم وضعها أمام تلك البيوت، حيث كان بإمكان من يمرون من هناك في الصباح، رؤية أعداد كبيرة من الجثث . ثم يأتون بعد ذلك بنعوش ، أو يضعون بعض الموتى على ألواح خشبية ، وكثيراً ما كانوا يحشرون ميتين أو ثلاثة في النعش نفسه. وقد يستخدم التابوت نفسه للمرأة وزوجها، أو لابنين أو ثلاثة أبناء ، أو للأب وابنه. 

 

لقد امتلأت المقابر وكذلك مقابر المعابد فتم حفر قبور جماعية كبيرة جداً لدفن مئات الموتى الذين يؤتى بهم فتُنضد الجثث فيها متراصة كما تنضد البضائع ، وتغطى بطبقة رقيقة من التراب عند سطح الأرض.

 

إن قسوة السماء كانت عظيمة ورهيبة ، وربما كذلك قسوة البشر . وإنه ما بين قوة الوباء وترك كثير من المرضى المحتاجين دون عون ، أو هجرهم والتخلي عنهم بسبب خوف الأصحاء ، انتُزعت حياة أكثر من مئة ألف إنسان ، منذ شهر آذار حتى تموز ، داخل أسوار مدينة فلورنسا ، وكم من الرجال الشجعان البارزين ، والنساء الجميلات ، وكم من الشبان البواسل الذين ما كان لجالينوس وأبوقراط وإسكولابيو إلا أن يعتبروهم مفعمين بالصحة ، تناولوا الفطور في الصباح مع أسرهم وأصدقائهم ، ليتعشوا في الليلة التالية مع أجدادهم وأسلافهم في العالم الآخر .

 

بيننا وبين فلورنسا يا بوكاشيو علامة فارقة فطاعون المدينة حصد الجميع دون تمييز. 


أما كورونا فحصد الجميع وترك لنا بركة السماء والبشر من رجال الدين الى رجال السياسة .