هو، مثله مثل كثيرين من الواصلين زحفاً ودَبدبة ولحوسة إلى مواقع المسؤولية، لا يهمّه من منصبه سوى شرف أن يبقى «معالي الوزير» و»سعادة النائب» و»دولة الرئيس»، حتى لا يترك بين الشعب سعادة ويحطّ من قدر كل عالٍ، وحتى يبقى وطنه دولة الأموات.

 


 

 

ومع قلّة احترامنا لنصّابي المناصب، الذين لم يتركوا شتيمة وبصقة تعتب على أدائهم الوظيفي، ولم يتركوا لساناً يمدحهم سوى ألسنة حاشياتهم والمنتفعين منهم...


 
 

ومع فائق قلّة احترامنا لهؤلاء، لا تطلع الشمس يوماً إلّا لتفضح أصوات صراخنا التي تنكأه سرقاتهم كلّما احتجنا خدمة كشعب يحلم في أن يكون محترماً، يحلم في أن تكون ضرائبه تذهب لخزينة غير مثقوبة، ووزارات غير منهوبة، ومؤسّسات لم يتمّ تحويلها مدينة مَلاهٍ للأزلام والطائفيين.

 

نعلم أنّ الحمار يضرب رأسه في الحائط مرّة واحدة... ويتعلّم. لكن ما هو المخلوق الذي يضرب رأسه في الحائط نفسه مئات وآلاف المرّات، ويبقى مؤمناً ومقتنعاً أنّ الحائط سيبدّل مكانه؟

 

هذا المخلوق هو نحن، هو كلّ واحد فينا من الشعب اللبناني، الذي ما زال منتظراً أن يختفي حائط السرقات والتنفيعات والسمسرات حتى تفتح أمامنا طريق الدولة المدنية العادلة.


 
 

إعتقدنا أنّ جشع النصّابين سيبقى منحصراً في الكهرباء والنفط ومال الخزينة والتهريب والاحتكار والنفايات... لكن وصلت بهم الوقاحة إلى سرقة أموال المحتاجين والمحرومين وذوي الاحتياجات الخاصة والأرامل وأولاد الشهداء وجرحى الحرب. ولولا وعي مؤسّسة الجيش اللبناني لكانت توزّعت المساعدات الموعودة من الحكومة على الأموات والمقتدرين وموظفي القطاع العام والمحسوبين على النصّابين.

 

هي كلّها 400 ألف ليرة كانت تنتظرها عائلات نسيت شَكل ولون خطّ الفقر من كثرة ما غرقت تحته... 400 ألف ليرة كان ينتظرها مُقعد أو كفيف، أو أرملة خسرت زوجها في معركة عبثية، أو ربّ عائلة يحلم أن ينام مع أولاده تحت سقف ليس من تنك، أو أمّ باعت كرامتها على إشارات المرور لتشحد ثمن دواء وربطة خبز.

 

لكنّ هؤلاء جميعهم لا يدخلون في حسابات الأحزاب وزعماء الطوائف، هؤلاء بالنسبة للنصّابين سعرهم 50 أو 100 دولار قبل الانتخابات، وثمن سكوتهم خطابات ووعوداً تسدّ رمق جوعهم الممتدّ من دورة إلى دورة.

 

دولة الأموات تتاجر بجثث الشهداء وتبحث عن تنفيع أموات الموالين الذين لم يحصلوا على شرف الشهادة... دولة الأموات لا تفهم سوى بالموت، فتختلق معارك لتقتل الشباب، وتنتظر أوبئة لتقتل الفقراء، وضرائب لتقتل المديونين، واستهتار لتقتل الحالمين، وشعارات لتقتل الأحرار، وتحالفات لتقتل الوطنيين، ومنابر لتقتل الكلمة الحرّة، وأحزاب لتقتل الديموقراطية.

 

وفي دولة الأموات التي يسهر عليها كثيرون ممّن شارفوا على الموت، يشقى الشباب لتلقيط عرق جبينهم من على شبّاك مصرف، ويبكي الآباء على شقى العمر الموقوف في درج مصرفي، ويندم الطلاب على دروس لا يسمع نتائجها السياسيون من صخب أغاني التبجيل.


 
 

في دولة الأموات، يبقى الشهيد حياً حتى يموت حاملو نعشه، ويبقى الفقير حياً حتى يأكل الزعيم لقمته...