أعلن وزير الطاقة والمياه ريمون غجر، قبل فترة، تأجيل الموعد النهائي لتقديم الطلبات للاشتراك في دورة التراخيص الثانية، من 30 نيسان لغاية الأوّل من حزيران. وقد ربط الوزير خطوته هذه بتداعيات إعلان حالة التعبئة العامّة في البلاد، وتأثير هذا الوضع على تحضيرات الشركات العالميّة للاشتراك في دورة التراخيص.
 
 
 يبدو أن التأجيل ارتبط قبل كلّ شيء بالظروف الضاغطة التي يعاني منها القطاع بأسره على مستوى العالم، والتي من الممكن أن تهدد مستقبل مسار التنقيب عن الغاز اللبناني بأسره. فهذه الظروف الضاغطة لن تطال فقط مسألة المشاركة في دورة التراخيص الثانية المقبلة، بل ستؤثّر حتّى على مستوى القرارات الاستثماريّة التي ستأخذها الشركات، التي تقوم حاليّاً بالأنشطة الاسكشافيّة في البلوكين أربعة وتسعة، اللذين تم تلزيمها في دورة التراخيص الأولى السابقة.
 
ضغوط على مستوى العالم
أدّت أزمة تفشّي وباء كورونا إلى إتخاذ الغالبيّة الساحقة من دول العالم لإجراءات وقائيّة، استهدف الجزء الأكبر منها الحد من تنقّل الأفراد والسفر والأنشطة الاقتصاديّة غير الضروريّة. وهكذا، أدّى هذا الواقع المستجد إلى تراجع الاستهلاك العالمي للطاقة بشكل كبير. وهو ما يعني تلقائيّاً تراجع الطلب على النفط والغاز الطبيعي، وانخفاض أسعارهما في الأسواق العالميّة. وخلال الفترة الماضية، شاءت الصدف أن يُضاف إلى هذا العامل سبب آخر لانهيار الأسعار، وهو تعثّر إتفاق "أوبك+" الذي أدّى إلى إطلاق يد المنتجين في إنتاج النفط والغاز من دون ضوابط، وهو ما أدّى إلى إنهيار أسعار النفط والغاز إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من 20 سنة.
 
كان من الطبيعي أن تؤدّي هذه الأحداث إلى تداعيات سلبيّة كبيرة، على مستوى الشركات المنتجة للنفط والغاز في العالم. خصوصاً أن تراجع الأسعار إلى هذا الحد جعل من كلفة عمليّاتها في بعض أنحاء العالم أعلى من عوائد المبيعات. ولذلك، اتخذت الكثير من الشركات قرارات بتعليق إنتاجها في حقول معيّنة، أو تخفيض مستوى الإنتاج للحد من حجم الخسائر الناتجة عن انهيار الأسعار. وفي ما يتعلّق بالمشاريع المستقبليّة، اتخذت شركات أخرى قرارات بتخفيض حجم أنشطتها الاستثماريّة المتعلّقة بالمشاريع الجديدة، بينما اتخذت بعض الدول قرارات بتأجيل خططها لتطوير حقولها النفطيّة.
 
فعلى سبيل المثال، قررت تونس تخفيض إنتاج حقل نوارة للغاز إلى حدود 800 ألف متر مكعّب يوميّاً، وهو ما يوازي 30 في المئة فقط من الطاقة الإنتاجيّة للحقل، التي تبلغ حوالى 2.7 مليون متر مكعّب يوميّاً. وفي الجزائر، قررت شركة "سوناطرك" خفض النفقات الاستثماريّة المتعلّقة بالمشاريع الجديدة إلى حدود 7 مليار دولار. وهو ما يوازي نصف القيمة المخصّصة سابقاً لهذه الغاية، والتي كانت تبلغ حدود 14 مليار دولار. وفي بعض الحالات، اتخذت الشركات قرارات بتأجيل مشاريع تطوير الحقول الجديدة، ريثما تتضح تفاصيل المشهد، كما فعلت شركة "ساوند إنيرجي" البريطانيّة في المغرب، حين أجّلت توقيع عقود التنقيب والإنتاج حتّى أواخر شهر حزيران المقبل.
 
كل هذه الوقائع ليست سوى مجرّد أمثلة من الأزمات التي تتخبّط فيها الشركات المنتجة للنفط والغاز حول العالم، على خلفيّة تدهور الأسعار وتراجع الطلب. ولعلّ القلق الأكبر لن يتعلّق فقط بوضع مشاريع هذه الشركات الحاليّة، بل بما ستحمل ميزانيّاتها من خسائر وضغوط ماليّة قاسية، وهو ما سيترك أثراً استراتيجياً يتجاوز المرحلة الحاليّة فقط. مع العلم أن شركات النفط العالميّة معروفة باعتمادها الشديد على رزم القروض الكبيرة لتنفيذ مشاريعها، وهو ما يضاعف من قسوة أثر هذه المرحلة عليها.
 
وحسب دراسة لمعهد التمويل الدولي، فإن وصول برميل النفط إلى عتبة الـ40 دولاراً سيترتّب على منتجي النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خسارة لعائدات تقدّر بنحو 192 مليار دولار، مع العلم أن الانخفاض في سعر البرميل تجاوز هذه العتبة، إلى حد بلوغ سعر برميل النفط لسلّة أوبك حدود 16.87 دولار في بداية هذا الشهر.
الأثر على دورة التراخيص المقبلة
في ظل هذا المشهد المليء بالعوامل الضاغطة على سوق النفط والغاز، لم يكن لبنان بعيداً عن تأثيرات هذا الواقع المستجد. فحسب الخطّة الموضوعة من قبل الدولة اللبنانيّة، كان من المفترض أن ينتهي لبنان في نهاية الشهر الجاري من استقبال العروض من الشركات المهتمّة بدورة التراخيص الثانية، لتلزيم عمليات الاستكشاف والتنقيب، ولاحقاً الاستخراج من البلوكات 1 و2 و5 و8 و10. وحسب الخطّة، كان من المفترض أن يتم دراسة العروض في الفترة الممتدّة بين شهري نيسان وتمّوز، ليتم الإعلان بعدها عن النتائج.
 
لكنّ كما كان متوقّعاً، جرى تمديد فترة قبول الطلبات من الشركات لغاية شهر حزيران. فالشركات التي تعمل في هذه المجال، وفي ظل الضغوط الماليّة القاسية التي تواجهها، لن تملك بالتأكيد أي اهتمام في التقدّم لدورات تراخيص تربطها بمشاريع جديدة. خصوصاً أنّ الأزمة الناتجة عن تفشي فيروس كورونا ما زالت مستمرّة، ولا يوجد أي مؤشّر في الأفق يدل على اقتراب انتهائها.
 
وحتّى بعد هذا التأجيل، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات تدل على حاجة لبنان مستقبلاً إلى تمديد إضافي لمهلة استقبال العروض من الشركات. بل وقد يحتاج لبنان إلى تمديد يتجاوز في مداه الزمني التمديد الأخير. فإذا افترضنا في أفضل السيناريوهات تجاوز العالم لأزمة تفشي فيروس كورونا بحلول حزيران المقبل، من الطبيعي أن تحتاج الشركات البتروليّة إلى وقت معيّن للتعافي من الآثار الماليّة للأزمة، وترميم ميزانيّاتها، بعد كل الضغوط التي ستنتج بهذه المرحلة. مع العلم أن أنشطة هذه الشركات، وتحديداً تلك التي تتعلّق بعمليات الاستكشاف والتنقيب الجديدة، تتسم بإرتفاع كلفتها ومخاطرها الماليّة. وهو ما يعني حكماً ضرورة تريّث الشركات قبل الارتباط بمشاريع جديدة مع لبنان إلى أن تستعيد هذه الشركات توازنها المالي.
 
وفي كل الحالات، يلفت الكثير من المتابعين لملف دورة التراخيص الثانية إلى أن التأجيل قدر الإمكان سيكون لصالح لبنان، ولو احتاج الأمر تأجيل مهلة تقديم الطلبات مجدداً في حزيران إذا لم تستعد الأسواق العالميّة حتّى ذلك الوقت. ففي أفضل الحالات، وحتّى لو تمكّن لبنان من الحصول على اهتمام مجموعة من الشركات النفطيّة للدخول في دورة التراخيص، فمن المستبعد أن تقوم هذه الشركات بتقديم أي عروض مغرية للبنان، في ظل انهيار الأسعار الحاصل في الأسواق.
التأثيرات على العقود الموقّعة سابقاً
بالإضافة إلى كل التأثيرات على دورة التراخيص الثانية المقبلة، لن تكون عمليّات الحفر في البلوكات، التي تم تلزيمها في دورة التراخيص الأولى، بمنأى عن تأثيرات أزمة كورونا على أسواق النفط والغاز. فحتّى اللحظة، من الثابت أن تحالف الشركات الذي نال الترخيص للأعمال الإستكشافية في البلوكين 4 و9 ملزم حسب العقود بإنهاء البئر الاستكشافيّة التي بدأ بحفرها في البلوك رقم 4، بالإضافة إلى حفر بئر استكشافيّة أخرى في البلوك رقم 9. مع العلم أن إنجاز هذه الآبار هو بحكم المضمون، كون الشركات وضعت كفالات ماليّة في مقابل تعهّداتها للدولة بحفرها، وفق معايير معيّنة.
 
عمليّاً، التأثير الفعلي سيكون في مرحلة ما بعد إنجاز الآبار الاستكشافيّة. فحسب المعطيات المتوفّرة، من المفترض أن تنجز شركة توتال حفر البئر الاستكشافيّة في البلوك رقم 4 خلال الأيام القليلة  المقبلة. وبعد إنجاز الحفر سيتعيّن على الشركة –في حال عثورها على كميات من الغاز- العمل على دراسة المعطيات المتوفّرة لتقرر مدى جدوى وربحيّة الانتقال إلى مرحلة متقدّمة من الحفر الإستقصائي، وبعدها الشروع بتطوير الحقل.
 
وهكذا، وعند اتخاذ هذا القرار بالذات، ستؤثّر الأسعار في الأسواق العالميّة على قرار الشركة وحماستها للانتقال إلى المراحل الأخرى، من الإستقصاء إلى تطوير الحقل. فكلّما انخفضت أسعار الغاز في الأسواق العالميّة، ستحتاج الشركة للعثور على كميات أكبر من الغاز ليكون الشروع بتطوير الحقل مسألة مربحة بالنسبة لها. وبمعنى آخر، كلما انخفضت الأسعار، ستنخفض إمكانيّة وجود جدوى للدخول في مرحلة تطوير حقول الغاز، إلا في حال العثور على كميات كبيرة جدّاً من الغاز تقلّص من دور الأسعار.
هل تكون كورونا فرصة لنا؟
شركات النفط حول العالم تعيد ترتيب أولويّاتها، بما لا يتناقض مع الالتزامات التي ترتّبها العقود الموقّعة أساساً. بالتأكيد سيعني هذا الكثير من التبعات على ملف دورة التراخيص الثانية، وسيقلل من إمكانيّة المضي قدماً في عمليات التلزيم خلال الفترة القصيرة المقبلة. ومن ناحية أخرى، قد يكون لأزمة كورونا آثار أيضاً على إحتمالات تطور الحقول التي جرى تلزيمها في دورة التراخيص الأولى. فهل تكون هذه العراقيل كلّها فرصة للبنان؟ هل يكون القدر قد وضع للبنان الأسباب الكافية لعرقلة استثمار موارده إلى حين إصلاح النماذج الاستثماريّة للقطاع؟
 
من المعروف أن لبنان تأخّر في إنجار أُطر تنظيميّة كثيرة، كانت ضروريّة لحفظ حقّه في موارده البتروليّة. وفي طليعة هذه الأطر إنجاز قانون الصندوق السيادي، الذي يحصر بشكل واضح وجهة استعمال الموارد البتروليّة، من دون إخضاعها للتبذير في معالجات الأزمة الماليّة القائمة، ومن دون هدرها في الصفقات المعتادة في لبنان. كما تأخّر لبنان في إنجاز قانون الشركة الوطنيّة، الكفيل بإدخال الدولة كشريك فعلي في الغاز المستخرج، ولو أن تأسيس الشركة لن يتم إلا بعد إيجاد الكميات التجاريّة.
 
قد تكون أزمة الكورونا وتأجيل دورة التراخيص الثانية مجرّد فرصة لنا، لإجراء كل هذه الإصلاحات في البنية التنظيميّة للقطاع. فموارد هذه القطاع لا يجب أن نقيّمها بحسب حاجتنا الماسّة اليوم، بل هي ثروة استراتيجيّة يجب أن يتم استثمارها وفقاً لقاعدة حفظ حق الأجيال القادمة فيها!