هناك حالة واحدة تسقط فيها كل جهود الحكومة لعزل الناس في منازلهم، اتقاءً لـفيروس «كورونا». الناس سينزلون إلى الشارع ولو عرَّضوا أنفسهم للوباء، إذا تمَّ السطو على مدَّخراتهم في المصارف، لأنّهم حينذاك يكونون قد خسروا كل شيء. وثمة مَن يتوقع أن يقودهم الغضب إلى أعمال عنفٍ وانتقامات غير محسوبة. فـ»قَطْعُ الأرزاق مِن قَطْعِ الأعناق».
 

يقول العارفون: ستكون حكومة الرئيس حسّان دياب قد أنهت المهلة المعطاة لها، وأنهت نفسها، إذا نفَّذت «هير كات» على الودائع المصرفية، أياً كان نوعها. وستعمُّ الشارع موجةٌ من الحقد والنقمة لم تكن موجودة في حراك 17 تشرين الأول 2019. ولا أحد يضمن ضد مَن سيجري تنفيسها.

 


يقول أحد الخبراء: «بالتأكيد، لو أدرك الناس أنّ البلد يعاني مصاعب اقتصادية ومالية حقيقية تستدعي منهم التضحية بجزء من مدَّخراتهم، لما تلكأوا. ولكن، تجري التغطية على الفئة التي قامت بأعمال نهبٍ منظَّمة للدولة ومواردها، على مدى عقود، وهرّبت مليارات الدولارات، فيما مليارات أخرى مرّت في القطاع المصرفي اللبناني أو استقرَّت، في شكل ودائع أو أسهم وسندات. وهذه الفئة التي تجمع أركان السياسة والسلطة والمال والمصارف ما زالت تتحكّم بالقرار وتعطّل مؤسسات الرقابة والمحاسبة والقضاء. ولذلك، لم تُشِر حكومة دياب بالإصبع إلى أي فساد أو فاسدين.

 

وخطة الإنقاذ، وفق ما يرشح، يُراد منها أن تعوِّض الفجوة المالية الناجمة عن عمليات النهب من جيوب الناس، ولا تتطرق جدياً إلى الأموال المنهوبة، بل تمرّ على ذكرها مرور الكرام عند الحديث عن صندوق التعويضات.

 

وحتى الآن، لم تبدأ حكومة دياب أي تدقيق جدّي في الحسابات التي يدور الجدل حولها منذ عقود. ويؤخذ عليها أنّها لم توقف الهدر في قطاعات الكهرباء والطاقة والاتصالات، وفي الجبايات، والتهريب، والأملاك البحرية والنهرية، والأبنية المستأجرة لمؤسسات رسمية، وفي حجم القطاع العام وغير ذلك الكثير.

 

وفيما لم تُحدِّد الحكومة مسؤولية كل جهة ومرجعية عن الكارثة المالية والمصرفية الواقعة، بالتقصير أو بالسلوك الخطأ أو الملتبس، يقوم السياسيون بمحاصرة التعيينات المالية والقضائية، تجنّباً لمفاجآت «غير سارّة» يمكن أن يتعرّضوا لها.

 

إذاً، سيكون ظالماً جداً تحميل الضعفاء ثمن خطايا الأقوياء. فبعد التقنين على المودعين، ثم تجويعهم، طوال أشهر، سيكون الاقتطاع من الودائع اعتداء مفضوحاً على الناس. وفي حالات من هذا النوع، غالباً ما يكون ردُّ الضعيف انتحارياً.

 

في التعميم الخاص بأصحاب الودائع دون الـ5 ملايين ليرة أو 3 آلاف دولار، جرت تسمية هؤلاء بخُبث «صغارَ المودعين»، وانطلى الأمر حتى على بعض الإعلام، علماً أنّ حسابات هؤلاء متفرقة، وبعضها يخصُّ أصحاب الملايين الذين يحتاجون إليها لحاجات مختلفة.

 

فإذا كان شَطرُ «صغار المودعين» يقتصر على 3 آلاف دولار، فسيكون مستغرباً أن يكون شطر «المتوسطين» بحجم 97 ألفاً (بين 3 آلاف و100 ألف). وأما المثير للسخرية، فهو أنّ شطر «كبار المودعين» يبدأ بـ100 ألف وينتهي بمئات الملايين، أي يتساوى فيه الملياردير مع موظف بسيط متقاعد.

 

وفي أي حال، يقضي العلم بتحديد شطور دقيقة للودائع. فليس منطقياً أنّ وديعة الـ98 ألفاً تنجو من الاقتطاع بالكامل، فيما وديعة تفوقها بـ3 آلاف فقط، أي 101 ألف دولار، تخضع لاقتطاع يفوق الـ50 % فتصبح 50 ألفاً أو أدنى.

 

هذا احتساب أرعن. والصحيح والعادل يكون بأن يقتصر الاقتطاع من الشطر الذي يفوق الـ100 ألف لاقتطاع الـ50 %. مثلاً: في وديعة الـ110 آلاف، يتمّ الاقتطاع من شطر الـ10 آلاف، وتبقى الـ100 ألف كاملة. فالشطور هنا حتمية لمراعاة العدالة.

 

وفي أي حال، كيف تُحدَّد فئة «المودعين الكبار» بدءاً مِن 100 ألف، عندما لا يشتري هذا المبلغ شقَّة صغيرة مستعملة في منطقة نائية، وعندما يكون ادّخاراً أقل من عادي لعائلةٍ أمضى أفرادُها عمراً في الكدِّ والتعب وأضافوا إليه تعويضات نهاية الخدمة؟

 

الأرجح أنّ سقف الودائع الوسطى يجب أن يكون بين الـ200 ألف دولار و300 ألف، كما يرى غالبية الخبراء. ولكن، أساساً، مَن قرّر أنّ كبار المودعين، حتى بملايين الدولارات أو عشرات الملايين، يستحقّون المعاقبة باقتطاع ودائعهم، إذا كانت مالاً مشروعاً جمعوها بالتعب والمبادرة والتضحيات؟

 

مثلاً، هناك لبنانيون أفنوا أعمارهم في الخارج وجمعوا أرصدة تشكّل لهم ولأولادهم بعض الأمان، وقد وثقوا في القطاع المصرفي اللبناني واستودعوه مدخراتهم. وهناك مقيمون ومغتربون باعوا أملاكاً بمئات الآلاف أو الملايين وأودعوها المصارف اللبنانية. فأين العدالة في اقتطاعها فيما ذوو الملايين والمليارات المشبوهة آمنون.

 

بمعزل عن حجم «الهيركات» وطبيعتها، هي مرفوضة ومستنكرة. والمطلوب أولاً وقف الهدر واستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة. والأجهزة الأمنية والقضائية والرقابية تمتلك معلومات كثيرة في مجال الهدر والنهب. وبالتأكيد، كثير من الأموال غير المشروعة لم يخرج من لبنان. وأساساً، الإصلاح بات حتمياً وهو شرط إجباري ليحصل لبنان على دعم الجهات المانحة.

 

إذا اقتنع الناس بأنّ الحكومة استنفدت أبواب الإصلاح ولكنها تحتاج إلى بعض المال لسدّ الفجوة، فإنّهم سيوافقون على تقديم بعضٍ من مدّخراتهم بطيب خاطر. وأما نهب أموال «الأوادم» لتغطية الأموال المشبوهة فسيكون اعتداء يمارسه الأقوياء على الضعفاء، وسيكون الردُّ عليه عنيفاً. ولن يكون لدى الناس ما يخسرونه إذا تمّ التنكيل بهم.

 

الدستور والقانون يحميان الحقوق. وفي دولة القانون، الودائع «النظيفة» يجب أَن لا تُمسّ ولو كانت بالملايين، والودائع «القذرة» يجب اقتلاعها، ولو كانت دون 3 آلاف دولار!

 

الخطأ ممنوع هنا، وإلا فصعبٌ تقدير انتقامات الناس، حجماً ونوعاً، إذا أُكِلَت أموالهم غصباً عنهم، فيما ذوو الأموال المنهوبة يسرحون ويمرحون. ويقول الإمام علي بن أبي طالب: «احذَروا صَوْلَة الكريم إذا جاع».