لم يعد في العراق الديمقراطي الجديد مرفوضاً ولا ممجوجا ولا مدانا بالخيانة العظمى من يجاهر بأنه جاسوس لدولة أجنبية، شقيقة أو صديقة، أو لدولتين، ويصبح في النهاية رئيس وزراء؟
 

لقد جاءت فكرة الانتخابات المبكرة مزحةً من قبل شلة الحكم العراقية لملاعبة شباب التظاهرات، فقط لا غير.

ولكن يبدو أنها تحولت إلى ضرورة لازمة ومصيرية لدى المعسكرين العراقييْن، الإيراني والأميركي، المضطرَّيْن، حاليا، للتعايش في العراق على سطح واحد، بحكم كابوس كورونا أميركيا، وكورونا وتدهور أسعار النفط والعقوبات الترامبية إيرانيا، في انتظار ما ستأتي به الرياح التي قد تكون ما تشتهيه السفن، بعد هذه الغمة العابرة.

إيران تنتظر سقوط دونالد ترامب ومجيء جو بايدن حبيب الله ورسوله والمؤمنين، لتنهض من كبوتها على يديه، وأميركا تنتظر سقوط النظام الإيراني بفعل الزمن والعقوبات وكورونا واحتمالات الثورة الإيرانية المقبلة، وعلى الله فليتوكل المتوكلون.

أما نحن العراقيين المكروهين من المعسكرين، فمنذ تشرين من العام الماضي، ننتظر أن تقلب ثورة شباب ساحات التحرير الشجعان الوطنيين الشرفاء جميع الطاولات على المعسكرين، وأن تعيد الوطن إلى أهله سليما ومعافى ودون سلاح المسلحين، ولا فساد الفاسدين، ولا عمالة العملاء، ولا خيانة الخونة المفضوحين.

حتى جاءت الأيام، بعد كل ما سال من دماء الشباب الزكية الطاهرة، غدرا وعمالةً وغباوة، لتثبت لنا أن التخلص من العملية السياسية الحالية المغشوشة، كلها من جذورها، أمر غير وارد، على الأقل في المدى المرئي، وأن علينا أن ننتظر ما سيكون عليه وضع الوطن العراقي الجديد بعد جائحة كورونا وأسعار النفط ومصير ترامب في أميركا والمرشد علي خامنئي في إيران، لتولد ثورة شبابٍ جديدة أشد من ثورة تشرين وأكثر حكمة وخبرة وشجاعة.

والظاهر أن فكرة الانتخابات المبكرة التي احتاج إليها الجميع لتغيير مزاج الشارع العراقي بتغيير المسموح بتغييره، قد فَرضت على المعسكرين الأميركي والإيراني في العراق أن يتعكزا على لعبةٍ أخرى مولودةٍ من الأولى، هي مهمة اختيار رئيس وزراء جديد يكون جسرا أمينا بين أميركا وإيران، وسطحا دافئا واحدا تنامان عليه.

أملا في قدرته على تخدير الجماهير العراقية المكلومة والمهضومة والمحرومة بسحبٍ “تلفزيوني” لبعض السلاح “الأحمق” الذي لا تريده إيران، وبتحرير “تلفزيوني” أيضا، لبعض مناطق الوجود العسكري التي لا تحتاج إليها أميركا، خصوصا بعد إعادة تموضعها وتعزيز سلاح بعضها الباقي إلى أبد الآبدين.

وبين هذا وذاك يتوجب عليه أيضا أن يقوم “تلفزيونيا” أيضا، ببعض إجراءاتٍ تبدو إصلاحية لتطييب خواطر القسم الأكبر من المتظاهرين.

وبعد محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي اللذين لم تتوفر فيهما مواصفات الجسر الآمن بين المعسكرين وقع الاختيار على رئيس جهاز المخابرات، مصطفى الكاظمي، وهو إيراني أميركي مزدوج الولاء والمزاج والشهرة، ليكون رئيس الوزراء الجديد، مؤقتاً، ليقوم بتلك المهمة.

وهنا يكون اختيار الكاظمي الأرنب الذي لا خيار سواه، والأقل سوءًا بين السيئين ونفاقا بين المنافقين وفسادا بين الفاسدين.

ولعل أكثر الناس فرحا بهذا الاختراع هو الرئيس برهم صالح الذي تفتحت مواهبه الخطابية في حفلة التكليف العجيبة الغريبة التي لم يحدث مثلها من زمن طويل. فقد تنفس الصعداء وخرج من عنق الزجاجة على طريقة لا غالب ولا مغلوب، لا مع أميركا ولا مع إيران، ولا مع المتظاهرين، وهو أفضل أنصاف الحلول المتوفرة.

وعليه، ورغم أن من يتوقع أن تكون الانتخابات العراقية القادمة نزيهة (ولو نص نص)، ليس واهما وحسب، بل هو ساذج أو مغفل ومخدوع، فإن علينا أن ننتظر ونسمع ونرى. فالسلاح الذي سيحرس صناديق الاقتراع لن يكون في أغلبه، سوى سلاح طهراني وأصفهاني وتبريزي. أما الحقائب المعبّأة بالدولارات والدنانير والريالات والدراهم فأميركية وبريطانية وفرنسية وقطرية وسعودية وتركية، علانية، ودون خوف ولا حياء.

ألا ترون كيف لم يعد في العراق الديمقراطي الجديد مرفوضاً ولا ممجوجا ولا مدانا بالخيانة العظمى من يجاهر بأنه جاسوس لدولة أجنبية، شقيقة أو صديقة، أو لدولتين، ويصبح في النهاية رئيس وزراء؟