ما هو مُحتمل وممكن في تاريخ البشر، تاريخ قد يُغيّر وُجهته ويتحكّم بمصيره فيروس ضئيل لا يُرى بالعين المجردة، ويزيد بني البشر حيرةً على حيرة.
 

العالم ُ غارقٌ في الحيرة، وإنّنا والله لمُحتارون، أو أنّنا في مقام الحيرة حسب لُغة المُتصوّفة، وإذا كان هذا مآلُنا، فلأنّ الله تعالى هو من أدخلنا هذا المقام، وشيخ الصوفية محي الدين بن عربي يدّعي ذلك، تصديقاً لقوله تعالى: "والله خلقكم وما تعلمون"، وقوله تعالى: " وما رميتَ إذ رميت، ولكنّ الله رمى"، وقوله تعالى: "فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلَهم"، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنت كما أثنيت على نفسك، وهذا مآل الوصول، فالأمّة مُحتارة حتى اليوم في الطير الأبابيل، فالطّبري غمز في روايته عنهم في آخر الخبر بأنّ" الجدري أول ما ظهرت في جزيرة العرب كان عام الفيل، وكذلك الأمر حول ملائكة بدر: كم كان عددهم؟ وما كانت عليه هيئتهم؟ كذلك أمّة المقاومة الإسلامية ما زالت حائرة في يومنا هذا: هل كان انتصار تموز عام ٢٠٠٦ نصراً إلهيّاً، أم كان نصراً بأيدي المجاهدين الشهداء والأحياء، وبفضل جدّهم وعزمهم وصبرهم؟ والحِيرة أعظم من العلم عند المتصوفة والفلاسفة على السواء، فبينما العالِم يحيطُ بالعلم، فالحائرُ غارقٌ في بحار العلم، وقد يُصيبُ الضلالُ أهلَ العلم، فقد أضلّ قومَ نوحٍ كثيراً من أهل العلم، كذلك في الأمّة المحمدية: فقد أُثِر عن الرسول دعاؤه: زدني فيك تحيُّراً، فالحائر له الدّور والحركة الدورية حول القُطب، فلا يبرح منه، ولا بدء له فيُلزمُهُ "من"، ولا غاية له فتحكم عليه "إلى"، وله الوجود الأتمّ، وهو المُؤتى جوامع الكلم والحكم.

اقرا ايضا : وزيرة العدل المُستقلّة..عرقلة التشكيلات القضائية

 

وخطيئاتهم( أي الصوفية) أنّهم غرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة، لنستمع إلى حوار إبن عربي مع المُتجلّي له: أقول له: أنت، يقول لي: أنت، أقول له: أنا، يقول لي: لا بل أنا، فأقول له: فكيف الأمر؟ فيقول: كما رأيتَ، فأقول: ما رأيتُ إلاّ الحيرة، فلا تحصيل منّي ولا توصيل منك، فيقول: قد أوصلتُك، فأقول: فما بيدي شيء، فيقول: هو ذاك الذي أُوصلتَ إليه، فعليه اعتمد (الفتوحات المكّية ٤/١٢٣).


حائر المتصوفة حالُه حالُ الفيلسوف، يطرح أسئلة ويحارُ في الجواب عليها، ولا يستبدلُ شكّاً بيقين، ولا يقيناً بشكّ، والأشياء ليست فكرة، بل دُواراً وهاجساً ووسواساً، وعلاقاتنا بالطبيعة مُحدّدة مرّةً واحدة وإلى الأبد، لا بموجب نصٍّ ديني، ولا بموجب نص علمي، وليس هناك من يدري ما الذي قد تُسفر عنه حرية الإنسان، ولا من يعلم ما الذي ستؤول إليه البشرية التي تسكنها وساوس الحتمية والصيرورة والصراع والخوف والأوبئة، وعالم الماورائيات، الحائر-الفيلسوف لا يُعلق آمالاً على قدَرٍ أو مصيرٍ محتوم، حتى لو كان هذا القدَر مناسباً ومُلائماً، بل يُعلق الأمل بالضبط على ما هو غير مُقدّر ولا محتوم، على ما هو مُحتمل وممكن في تاريخ البشر، تاريخ قد يُغيّر وُجهته ويتحكّم بمصيره فيروس ضئيل لا يُرى بالعين المجردة، ويزيد بني البشر حيرةً على حيرة.