«يعيش المثقف على مقهى ريش

محفلط مزفلط كتير الكلام

عديم الممارسة عدو الزحام

بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح

يفبرك حلول المسائل أوام

ويعيش أهل بلدي»

- (أحمد فؤاد نجم)

ما أصبح واضحاً في بلدنا هو كثرة المرشدين والناصحين والواعظين، الذين يخرجون بشكل متكرّر إلى حدّ الضجر، ويكرّرون كلامهم وكلام غيرهم من الواعظين بشكل مثير للشفقة. بعضهم يظهر ووراءه صور إنجازاته العسكرية، وآخرون يجلسون وخلفهم صفوف من الكتب ليثبتوا أنّهم يقرأون؟ والناس غافلة عن كل هذا! ما هو مؤكّد حتى هذه اللحظة هو الغياب الكامل لأي رجل أو سيدة دولة، ممن لديهم الجرأة لقول الحقيقة للناس بالنسبة للأسباب الحقيقية لما وصلت إليه الأمور، من دون تقية أو خوف من تبعات الصراحة.

 

البارحة ما سمعناه في بعبدا، إلى كونه حفلة نواح، في الوقت ذاته كان جملة من الأحابيل، اعتاد عليها ساسة بلدنا لإقناع أتباعهم، الذين يتبعونهم على كل حال، في السراء والضراء، إن أخطأوا أم أصابوا. لكن السامعين من ممثلي الدول الداعمة، قد لا يعلّقون على ما سمعوه بشكل مباشر، وقد يمارس بعضهم التقية الدبلوماسية حتى لا تكون أجوبتهم جارحة وغير لائقة، رغم معرفتهم بأنّ مضيفيهم لا يستحقون اللياقة! فمن استخف بعقل قبيلته الطائفية وقادها بأوهام النصر من جهة، واسترجاع الحقوق المسروقة من جهة أخرى، لا يمكنه أن يستخف بعقل اختصاصيين، يعرفون الشاردة والواردة في لبنان بالتأكيد، قبل أن عرضتها مجموعة النق والضجر في المؤتمر.


 
 

لا أحد بالتأكيد يحسد من يتولّى رئاسة الحكومة في لبنان على الموقع الذي وصلت إليه، فهي في مكان والسلطة في مكان آخر، وإن كان رئيسها يظن أنّه قادر في غفلة من الزمن على اختطاف قرار السلطة في لحظة مصيرية، فيقنع فيها القابض على السلطة بوجوب اتخاذ قرارات ثورية ومفيدة في السياسة، تعيد توجيه الأمور إلى ما ينفع لبنان من جهة، وينجح رئيس الحكومة في مسعاه، وربما يضعه في مصاف المشاهير والأبطال، فهو واهم بالتأكيد. فالقابض على السلطة يرى في لبنان مجرّد ساحة من ساحاته المتعددة لمشروع واحد، وهو جاهز بكل رحابة صدر، وقداسة، للتضحية بجزء من ساحات المشروع لفداء المشروع بأكمله. وحتى لا أكون من أتباع التقية، فهذا المشروع عنوانه ولاية الفقيه. أما إذا كان رئيس الحكومة مقتنعاً بأنّه قادر على اجتراح العجائب لإنقاذ الوضع المالي، ومن ثم الاقتصادي، بالرغم من الاستمرار في سياسة التدمير الذاتي في السياسة والديبلوماسية، أي الإمعان في تخريب علاقة لبنان مع من هم قادرون على مساعدته، فهو يستغبي نفسه فوق كونه واهماً.

 

ما لم تتمكن من القيام به الحكومة التي استقالت لإصلاح الوضع المالي، لم تفلح به لأنّه يبدأ بقرار سياسي أولاً، بإعادة السلطة للدولة لتأخذ قراراتها بمعزل عن المرشدية المفروضة بقوة السلاح والقدرة على التخريب، وثانياً في الأمن، بمنع اللبنانيين الموجودين في خدمة المشاريع العسكرية العابرة للحدود من الاستمرار في التخريب والعبث بأمن المنطقة. ولا يمكن القول إنّ رئيس الحكومة سينقلب على من أتى به إلى سدّة الرئاسة، وهو الآتي من المجهول، في حين أنّ كل من كانوا معروفين ومستندين لقواعد شعبية فشلوا في هذه المهمة. لهذا لا أحد يلومه، لكن أن يخرج في المؤتمر ليقول إنّ حكومته أنجزت سبع وخمسين بالمئة من البرنامج الإصلاحي فهذه فضيحة بحدّ ذاتها! فعن أي برنامج يتحدث؟ وكيف تُقاس النِسَب بالنسبة له؟ وهل يظن أنّه بجملة من الأرقام، يرميها على السامعين باللغة الإنكليزية، قادر على إيهام الخبراء بدقّة كلامه؟ لست هنا لمجرد التهجّم عليه بالسياسة، فبكل موضوعية كمواطن، كنت أتمنى له النجاح، لأضمن بعض الأمل لنفسي ولمجتمعي، لكن من جرّب المجرّب كان عقله مخرّب!


 
 

الطامة الكبرى كانت في المقامات الرئاسية التي أسهبت في الكلام عن الكورونا والنزوح، مترافقة مع معزوفة السنوات العجاف الثلاثين، وهي التي أصبحت رديفة لتعبير «ما خلونا نصلّح»، وقد ينصف البعض الرئيس في تبريراته لو انّ العهد أعطى إشارة ولو صغيرة ببداية إصلاح ما في عهده، وإن كان صحيحاً أنّ البعض وقفوا في وجه الإصلاح، فما كان عليه إلّا فضحهم إن كان غير قادر على محاكمتهم بتهمة وقف الإصلاح على الأقل، أو الفساد. أما إن كان هؤلاء فوق القانون، فمن الأشرف الاستقالة! بالطبع عندما سيكون لدينا من له شرف الاستقالة في موقع المسؤولية إن فشل، سنكون عندها لسنا بحاجة لا لإصلاح ولا لتغيير، لأنّه يعني أنّ من يتولّى المسؤولية هو مسؤول بالفعل. لكن لنعد إلى ما طالب به الرئيس بعد هجاء السياسات السابقة، لقد طالب بتحقيق التزامات مؤتمر «سيدر!»، يعني أنّ الإنقاذ هو من خلال سياسات هي ذاتها ما شكا منه وبكى؟

 

الواقع هو أنّ الجميع يعرف مكمن العلّة، ويعرف أين يبدأ الحل، والكل عاجز عن توصيف العلّة والبدء بالعلاج. لحسن حظ وكلاء الحكم العاجزون عن الحكم، هو أنّ الكورونا حلّت ضيفاً ثقيلاً، فجعلت من نفسها أولوية صحية، وفي الوقت ذاته شمّاعة يعلّق عليها الفشل في علاج أزمة المالية القاتلة أكثر من الكورونا، ولو بعد حين. ما هو مؤكّد الآن، هو أنّه في ظل الوباء العالمي، فحتى تلك المؤسسات والدول التي قد تتجاوز السياسة وحقائقها، لتتحنن علينا بحجة النزوح، صار همّها هي ذاتها الحفاظ على ذاتها، وليس لديها أي نوع من الرفاهية لمدّ يد العون إلى أي كان، حتى ولو كان لبنان، أو ربما خصوصاً إن كان لبنان.

 

قد تكون الكورونا أعطت نوعاً من النَفَس والحجج لوكلاء الحكم، لكن فترة السماح ستنتهي حكماً عندما لا يعود بالإمكان حَجر الناس في بيوتها.