حقيقةً لا نعرف ما هي الدوافع التي تدفع باتخاذ مثل هذه القرارات الاقتصاديّة في وقتٍ تعاني فيه الخزينة اللبنانيّة من عجزٍ فادح! هذا في حال صدّقنا الأرقام الرّسميّة التي تُقدِّر قيمة الودائع الصغيرة.
 

  منذ أسبوعين، وعلى استحياءٍ، كنت أنشر على صفحتي منشوراتٍ أُطالب فيها الدولة علنًا بطبع ما يساوي تريليون ليرةٍ إضافيّةٍ لتوزيعها على المتضرِّرين (وما أكثرهم!) من تعطيل الحركة الاقتصادية أُسوةً بباقي الدول الكبرى التي ضخّت تريليوناتٍ من عملتها لمواجهة تداعيات أزمة كورونا. فالولايات المتحدة مثلًا ضخّت تريليونيْن ومئتي مليار دولارٍ في الأسواق لدعم العاطلين عن العمل ودعم الشركات والمؤسّسات التي تضرّرت من التعطيل القسري. وكنت أُضيف أنّ طباعة تريليون ليرةٍ سيخفِّض ولا شك قيمة الليرة. لكنّ ذلك، في رأيي، أهون من أن تجوع شريحةٌ واسعةٌ من الشّعب اللبناني. فالأمن الاقتصادي والاجتماعي أهمُّ بكثيرٍ حاليًّا من أيّ اعتبارٍ آخر. كما كنت قد أشرت بحزنٍ إلى أنّ الموظف العمومي سيقبض راتبه آخر الشهر مهما انخفضت قيمته، فيشتري ويجلب ما يشاء إلى بيته سعيدًا حتى يسدّ رمق عائلته، لكنّ المواطن العادي لن يدخل جيبته أيّ قرشٍ فيعود خائبًا إلى بيته. لكنِّي لم أكن أتخيَّل أنّ انهمام حاكم مصرف لبنان بأصحاب الودائع الصغيرة سيصل إلى هذه الدرجة من سوء التقدير الاقتصادي!!

 


   كنت سأتفهم موقفه لو أنّه اعتبر أنّ الحسابات الدائنة بخمسة ملايين ليرةٍ كحدٍّ أقصى والتي كانت مودعةً في البنوك قبل ثورة تشرين يطالها فقط التعويض الذي قدّره مصرف لبنان. أمّا أن تُحتسب جميع الودائع الصغيرة بما فيها الرواتب التي استحقّت قبل لحظةٍ من صدور قراري حاكم مصرف لبنان الأخيرين، فهذا ما لا يمكن القبول به لا اقتصاديًّا ولا اجتماعيًّا. فالأولى من هؤلاء الذين يقبضون أولئك الذين لا يقبضون والذين تعطّلت أشغالهم كلّيًّا ويحاصرهم الجوع والخوف على مستقبل عائلاتهم.

 


   ما يقوم به مصرف لبنان جريمةٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ في آن: جريمةٌ اجتماعيّةٌ بحق المتضرّرين الذين هم أولى بالمساعدة. مئات آلاف العمّال من صغار الكَسَبَة هم أولى بالتعويض من الموظفين الذين يقبضون رواتبهم. وجريمةٌ اقتصاديّةٌ بحق الليرة من دون أيّ منافع مجتمعيّة. فضخ تريليونات الليرات من خزائن مصرف لبنان سيؤدي حكمًا إلى هبوط سعر العملة بنتيجة تضخم الكتلة النقديّة في الأسواق لا سيما أن لا إيرادات منذ مدّةٍ طويلةٍ تدخل إلى خزينة الدولة اللبنانيّة فالنشاط الاقتصادي متوقّفٌ بشكلٍ شبه كلّي. وإنّ أيّ ضخٍّ لسيولةٍ جديدةٍ سيكون بطباعة عملةٍ جديدة. وأول الغيث هو الاعتراف بسعرٍ للسوق السوداء يبلغ ٢٦٠٠ ل.ل. هذا يعني أنّ ال٢٦٠٠ ليرة هو السعر الوسطي الذي ستعتمده البنوك. وهذا يعني أنّ السعر في السوق الموازية سيتجاوز حكمًا ثلاثة آلاف ليرة؛ لأنّ المنصة الإلكترونية لتداول العملات الأجنبيّة لن تكفي حاجات الاقتصاد اللبناني من العملات الأجنبية لا سيما الدولار؛ ممّا سيدفع باتجاه قيام سوقٍ موازيةٍ أخرى يتمّ التداول فيها بسعرٍ يتجاوز ال٢٦٠٠ ليرةٍ لبنانيّة. 

 


   حقيقةً لا نعرف ما هي الدوافع التي تدفع باتخاذ مثل هذه القرارات الاقتصاديّة في وقتٍ تعاني فيه الخزينة اللبنانيّة من عجزٍ فادح! هذا في حال صدّقنا الأرقام الرّسميّة التي تُقدِّر قيمة الودائع الصغيرة بقيمةٍ تزيد قليلًا عن المليار دولار. أمّا في حال كانت هذه الأرقام وهميّةً أو شبه وهميّةٍ فعلينا أن نفكر في الخلفيّات الاقتصادية التي تدفع إلى اتخاذ هذا القرار.

 

إقرأ أيضًا: فيروس الوهم أو مرضى الوهم

 


   وأهمّ دافعين لذلك في رأيي اثنان:

١-ما سيحصل سيشكِّل سابقةً لجهة أنّ المصارف تكون قد ثبّتت مقولة حاكم مصرف لبنان التي تقول بأنّه ليس من الواجب على البنوك أن تردّ الودائع الدولاريّة بالدولار، إنّما من واجبها أن تردّها بالعملة المحليّة، أي بالليرة اللبنانيّة. فأيّ وديعةٍ دولاريةٍ من الآن وصاعدًا ستردّ بالليرة اللبنانيّة.

 

٢-إنّ المواطنين الذين استدانوا بالدولار الأمريكي وكانوا يسدِّدون ديونهم بالليرة اللبنانيّة بسعرٍ للدولار هو ١٥١٤، بات عليهم من الآن وصاعدًا أن يسدِّدوا ديونهم بسعرٍ للدولار لا يقل عن ٢٦٠٠ ليرة. وهذا ما يشكّل عليهم خسارةً فادحةً لا يمكن تحمّلها. مثلًا يقبض المتعهدون مستحقّاتهم بالليرة اللبنانيّة من الدولة اللبنانيّة. وصار لزامًا عليهم أن يسدِّدوا دينهم الدولاري على أساس سعرٍ لا يقل عن ٢٦٠٠ ليرةٍ مع أنهم احتسبوا أسعار تنفيذ أعمالهم على أساس ١٥٠٠ ليرة للدولار الواحد.


   اللهم إنّا لا نسألك ردّ القضاء؛ إنّما اللطف فيه!