إذا كان ثمة تغيير في المنظومات السياسية قد أفرزه تفشّي «كورونا» في العالم، فهو إعادة الإعتبار لدور الحكومات المركزية، والذي تمّ تهميشه خلال عقود العولمة الثلاثة الماضية، لمصلحة ما يصطلح على تسميته مؤسسات ما فوق الدولة، من منظمات دولية ومجموعات غير حكومية، إلى آخر تلك التسميات المتصلة بالمجتمع المدني. تلك حقيقة بات يقرّ بها حتى أولئك الذين نظّروا لهامشية الدور الحكومي في التصدّي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في زمن الكوارث الذي يشهد العالم اليوم أحدث فصوله.
 

كالعادة، لا ينطبق ذلك على لبنان. صحيح أنّ حكومة حسان دياب، او بالأصح وزارة الصحة فيها، ما زالت قادرة على مواجهة تداعيات الوباء المتفشي في العالم، وهي أثبتت فعالية في ذلك، بالإمكانات المحدودة المتوافرة، وبرغم التخبطات هنا وهناك - وآخر مشاهده التعامل مع ملف المغتربين الذي يُدار بخليط غريب من المهنية والفوضى في آنٍ واحد.

 

وإذا كانت الإدارة الداخلية لأزمة «كورونا» ما زالت قادرة، على السير بين ألغام الكارثة الصحية، إلّا أنّ ذلك لا يكفي لإعطاء حكومة دياب براءة ذمة شعبية في حسن الإدارة والسلوك.

 

 
 

الأكيد انّه لولا «كورونا»، لأظهرت الحكومة اللبنانية أسوأ صورة في إدارة البلد، لا بل انّ الواقع بمجمله، كشف أنّ الفيروس الخبيث هو القشة التي تتمسّك بها التركيبة الحكومية القائمة لتثبت جدارتها.

 

هذا ما يجعل لبنان اليوم في حالة انفصام في الشخصية بين حكومة فعلية تدير أخطر الأزمات على صحة المواطن اللبناني، وبين شبه حكومة لا تزال عاجزة عن إدارة أزمات توازي أزمة «كورونا» في خطورتها، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية، التي لا تبشّر فيها المقاربة العامة للتركيبة الحاكمة بالخير.

 

إذا كانت الحكومة، بكل أذرعتها، تأخذ على المواطنين، أو بعضهم، عدم تقيّدهم بإجراءات الحماية الصحية، وفق سردية «وكأن لا «كورونا» ولا من يحزنون»، فإنّ السردية ذاتها هي في الواقع ما يميّز العمل الحكومي، الذي يصرّ أقطابه على إدارة الملفات الملحّة وكأنّ لا «كورونا» انتشر، وقبله، لا غضب شعبياً انفجر.


 
 

هذا ما عكسته تماماً أزمة التعيينات الأخيرة، التي أسقطت ورقة التوت عن «حكومة الإنقاذ» أو «حكومة التكنوقراط»، التي لم تستطع حَجر نفسها من وباء الاستئثار والمحاصصة السياسية التي جعلت البلد مفلساً، بإعلان رسمي من الحكومة نفسها.

 

ما كشفته أزمة التعيينات لم يكن مفاجئاً، فما سبقها أظهر بشكل واضح أنّ «حكومة التكنوقراط» ليست اسماً على مسمّى، وبأنّ استقلاليتها التي كانت منشودة لإنقاذ البلاد، من بوابة إدارة الأزمة المالية ومكافحة الفساد، ليست سوى «ديكور» للمحاصصة الجديدة التي جاءت امتداداً للمحاصصة التي حكمت عمل الحكومات السابقة، وإن تبدّلت موازين القوى والوجوه.

 

هذا ما تبدّى بشكل جلي يوم فرضت «المحاصصة» نفسها على «الاستقلالية» الوهمية بتعطيل التشكيلات القضائية التي يفترض، بحسب وعود رئيس الجمهورية في موجات الحراك المتتالية، أن تكون المدخل للإصلاح ومكافحة الفساد.


 
 

هذا ما تبدّى أيضاً في تفريغ قانون «الكابيتال كونترول» من محتواه الذي كان يفترض أن يحمي المودعين، قبل أن تطلّ أفاعي المصارف برؤوسها من جحور مجلس الوزراء، فيتحوّل مشروع القانون لخدمة المصارف في عدم إلتزامها وكفّ مطالبتها بإعادة حقوق الناس في ودائعهم.

 

حتى إدارة أزمة «كورونا»، أخفت أنّ المحاصصة هي الحاكم الفعلي للبنان، فحالة الطوارئ لم تُعلن لأنّ معركة الرئاسة ما زالت الهمّ الأوحد لفريق العهد، الذي لا يريد أن يُسجّل للجيش اللبناني دوراً محورياً، ولو في زمن الكوارث، والجدل الذي أثير حول عودة المغتربين دخل بدوره في بازار الـ6 و6 مكرر!

 

على هذا الأساس، لا يمكن فهم قرار دياب بسحب بند التعيينات إلّا من زاوية اعتباره شكلاً سياسياً لـ»العزل المنزلي» أمام وباء سياسي، أو بمعنى آخر، إسقاط تجربة التعامل مع فيروس «كورونا» على التعامل مع فيروس «المحاصصة»، وذلك في تجاهل واضح للاختلافات الموضوعية بين «الفيروسين». فإذا كان العالم لا يزال حائراً أمام فيروس «كورونا»، الذي ستطول فترة إيجاد اللقاحات أو العلاجات الدوائية له، والذي يبقى التعامل الأفضل معه هو في «الحَجر المنزلي»، فإنّ فيروس «المحاصصة» لا يمكن أن يُعالج بـ»حَجر القرارات» طالما أنّه قادر كل يوم على اختراق عتبات المنازل.

 

لجأ دياب الى أن يضحّي بالجنين لكي تعيش الأم، أي أن يضحّي بنوافذ الإنقاذ حتى لا تنفجر الحكومة، التي باتت ميداناً للاشتباك السياسي المدمّر، على كافة الجبهات، ولا سيما الجبهة المسيحية المُستحدثة بين جبران باسيل وسليمان فرنجية، بكل تقاطعاتها.

 

هو في الواقع منطق النعامة التي تفضل أن تدفن رأسها في التراب أمام العواصف. لكنّ المشكلة الكبرى، أنّ هذه النعامة وإن استطاعت، بمعجزة لبنانية، أن تحتمي من عواصف صراعات أهل السلطة، فإنّها بالتأكيد ستتمزق حين تواجه الإعصار المؤجّل، الذي يتكوّن اليوم داخل كل أسرة وضعتها ازمة «كورونا»، وجشع المصارف، والمحاصصة السياسية، أمام الخيار القاتل بين الموت بالفيروس الخبيث وبين الموت من الجوع.

 

في الواقع، وبعيداً من ادعاء الانتصارات الدعائية، فإنّ دياب حين تراجع في المواجهة السياسية مع نظام المحاصصة فوّت على نفسه فرصة ذهبية لكي يُظهر قيادته لحكومة انقاذية. صحيح أنّ المواجهة تبدو غير متكافئة، ولكنّ ذلك هو ظاهر الأمور، فواقع الحال يقول إنّ التكافؤ متوافر، وقد يكون «كورونا» نفسه، فإذا كانت الحكومة قد نجحت، بقدر معقول في إدارة الأزمة الصحية، فإنّ ذلك كان من شأنه أن يكون مدخلاً لكي تثبت حضورها في إدارة الأزمة الاقتصادية، ولا سيما إذا ما اضفنا إلى ما سبق، أن أحداً مستعد في ظل الوضع الراهن بالمخاطرة في تفجير الحكومة... إلّا اذا كانت نزعة السلطة الجنونية عند البعض تسمح بذلك.


 
 

في الحقيقة، يبدو التراجع في ملف تلو الآخر عبارة عن سلسلة ضربات متلاحقة للحكومة، وانتصاراً تراكمياً لنمط ما قبل 17 تشرين الأول 2019.

 

قد تنجو الحكومة في تكتيك: خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء، ولكنها تخاطر بمستقبلها ومستقبل البلاد معاً، ما إن يبتعد شبح «كورونا» قليلاً، أو حين يبلغ السيل الشعبي الزبى، فينفجر الشارع المحتقن مجدداً، وحينها تتهاوى كل الخطوط الدفاعية الهشة، كما تتهاوى قلاع محصّنة أمام مد التسونامي المدّمر.