حتى قبل أن يظهر في الافق أي حل طبي حاسم لفيروس كورونا، بدأ النقاش الواسع حول العالم الجديد الذي سينشأ بعد الانتهاء من هذا الوباء. وهذا الجديد لن يشمل فقط تعديلاً في حياتنا اليومية وعاداتنا الاجتماعية والسلوك العام للمجتمعات، والذي سيكون على الأرجح نقيضاً لمفهوم العولمة الذي قادته وهَندسته الولايات المتحدة الاميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل انه سيشمل الخارطة الجديدة للنفوذ السياسي على المستوى العالمي.
 

ما يعانيه الغرب اليوم ليس أزمة توفّر الكمامات، والتي تدور حولها حروب سطو وخطف وقرصنة، لا بل انّ الفشل المريع في مواجهة فيروس كورونا ليس سوى رأس جبل الجليد الذي تتوارى تحته أزمات أعمق تطال الفكر والاجتماع والسياسة والاقتصاد.

 

يكفي ان نرى حال دول الاتحاد الاوروبي، فيما الرئيس الاميركي يهدّد بالانتقام اذا لم تَنل بلاده ما تحتاجه من كمامات وأقنعة ولو على حساب غيره من الدول، ومعه تبدّل شعار ترامب من الولايات المتحدة اولاً الى الولايات المتحدة وحدها من دون غيرها.


 
 

من دون شك تلقّى ترامب صفعة مدوية بعد نجاح الصين في تقديم نموذج مختلف أعطى ثماره في احتواء الفيروس، فيما نيويورك تصبح موبوءة بعد ان كانت عاصمة المال العالمي، وتنتظر بلهفة المساعدة الصينية والبالغة زهاء 1000 جهاز تنفس اصطناعي. أمّا ايطاليا، التي تعيش الخيبة من حلفائها، فلم تجد من يساعدها سوى الصين وروسيا. من هنا ربما كلام كيسنجر بأنّ الوباء سيؤدي الى تغيير النظام العالمي للأبد، وانّ الاضطرابات السياسية والاقتصادية الناجمة عنه ستستمر لأجيال.

 

هناك من يعتقد انّ التاريخ عاد للانتقام، وانّ عجلة الزمن دارت دورتها الكاملة منذ أن تفكك الاتحاد السوفياتي. قد يكون ذلك صحيحاً، لكنّ الحديث منذ الآن عن أفول الغرب ما يزال سابقاً لأوانه.

 

فمن الممكن ان يكون النظام العالمي يحتضر، لكنّ احتضاره قد يأخذ الكثير من الوقت، ربما عشرات السنين. فالاقتصادان الاميركي والاوروبي يترنّحان، وقد تكون الجهود الآن للتخفيف من الاضرار على المدى الطويل، من خلال السعي لإنقاذ الشركات الصغيرة والمتوسطة وتعويضها بسخاء وتجنيبها الافلاس وحالات تسريح العمّال. ففي شهر آذار وحده، وبحسب بيانات وزارة العمل الاميركية، فُقدت 700 ألف وظيفة، والآتي اعظم بكثير.


 
 

الواضح انّ الاولويات الاميركية لم تكن في محلها، رَكّز ترامب وفريقه على تعزيز القدرات القتالية وعلى نقل اموال العالم الى داخل شرايين الاقتصاد الاميركي من دون الالتفات الى التَبعات السلبية لذلك. مؤخراً، أعلن الجيش الاميركي عن اختبار صواريخ جديدة تفوق سرعتها سرعة الصوت، وأطلقَ حاملتي طائرات جديدتين تسيران على الطاقة النووية. لكنّ احدى هاتين الحاملتين تحوّلت الى مجرد آلة معطّلة بعد أن نَخر الفيروس معظم افراد طاقمها البالغ 4500 جندي. كل هذه القوة العسكرية الاميركية تعطّلت فيما كانت نيويورك وكاليفورنيا تعانيان نقصاً حاداً في المعدات واللوازم الطبية، ما سَرّع من وتيرة انتشار الوباء وموت الأميركيين.

 

وفيما تفتقد المستشفيات الاميركية الى الحد الادنى من اعداد أسرّة الرعاية الطارئة والكوادر المدرّبة، كانت الاصوات الداخلية تنتقد ترامب بعنف بسبب خفضه ميزانية مراكز مكافحة الامراض والوقاية منها. لا بل اكثر فإنّ أجهزة الاستخبارات الاميركية، والتي لم تنسجم يوماً مع طريقة عمل ترامب، كانت قد حذّرت الرئيس الاميركي مطلع السنة من مخاطر انتشار الفيروس في الداخل الاميركي، لكنّ ترامب تجاهَل هذه التحذيرات المتكررة ما أدّى الى الكارثة الاميركية. إلّا أنّ ترامب، والذي أدى سلوكاً متخبّطاً في طريقة معالجة ما يحصل، يدرك انّ الخطر بدأ يلوح حول إعادة انتخابه. فهو يعرف انّ الركود عام 1992 ساهم في خسارة جورج بوش الأب بطل حرب الخليج او الحرب الاميركية الاولى بعد جحيم فيتنام، وفاز مجهول اسمه بيل كلينتون. كذلك في العام 2008، فإنّ من أسباب انتصار الديموقراطي باراك اوباما على الجمهوري جون ماكين إلقاء لوم الناخبين على ادارة جورج بوش الابن الجمهورية بحصول الأزمة المالية في العام نفسه. والاميركيون يريدون اليوم سماع من يطمئنهم ويحميهم ويُعيد اقتصادهم، فيما التوقعات تتحدث عن حصيلة تتراوح ما بين 100 الف و240 الف قتيل.

 

لكنّ ترامب، المُتراجع في أحدث استطلاعات الرأي، ما يزال يحتفظ بأوراق قوة.

 

ديفيد بلوف، وهو مهندس حملة انتخاب اوباما عام 2008، قال إنّ ترامب ما يزال في وضع جيد لأنّ انصاره سيشاركون بالحد الأقصى في الاقتراع، لا بل ستكون نسبة مشاركتهم تاريخية. فهؤلاء ينطلقون من تأييدهم لأسباب مختلفة تتعلق بالانقسامات الداخلية.


 
 

الـ «اي.بي.سي.نيوز» وجدت انّ نسبة الحماس في صفوف مؤيدي بايدن لا تتعدى الـ 74 %، فيما يحظى ترامب بحماس اكثر من 86 % في صفوف مؤيديه.

 

لذلك، يدور كلام داخل أروقة الحزب الديموقراطي بأنّ ضمان الفوز ربما يحتاج لمرشح يُلهب الحماسة اكثر بين الاميركيين بدلاً من جو بايدن صاحب الأداء البارد، والذي فشل حتى الآن في تأمين رقم مالي مرتفع للمتبرعين لحملته.

 

ورجّح ترشيح حاكم ولاية نيويورك الشاب اندرو كومو الذي يحظى بإعجاب الاميركيين لإدارته معركة كورونا، فشخصيته جذابة وخطاباته تفعل فعلها. لكن هناك عائقين أمام تبنّي ترشيحه، الاول انه لا يبدو متجاوباً مع هذه الدعوات، والثاني الآلية الصعبة لتسميته والتي تلحظ وجوب إقناع مئات مندوبي بايدن بذلك.

 

في هذا الوقت الشركات الاميركية الضخمة تعلن إفلاسها كما بدأ مع شركات تعمل مع القطاع النفطي. أضف الى ذلك عشرات آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. صندوق النقد الدولي يقول إنه من الواضح أننا دخلنا مرحلة ركود أصعب بكثير مما كان عليه الوضع عام 2009. ويعتبر انّ الوضع سيكون سيئاً بشكل خاص في البلدان الناشئة والنامية. ويكشف انّ اكثر من 80 دولة تقدمت بطلب للحصول على مساعدات طارئة من الصندوق. والسؤال هنا: أين لبنان من كل هذه الفوضى؟ وأين اقتصاده المُنهار أصلاً وسط هذه الزلازل التي تضرب العالم؟

 

لا بد من الإقرار: المشهد كلّه تغيّر.