يخوض «حزب الله» مواجهة معلنة مع المصارف وبشكل مباشر، أي ليس فقط من خلال من يدور في فلك الحزب، بل السيّد حسن نصرالله شخصياً يتولى هذه المواجهة ويقودها.
 

وجّه أمين عام «حزب الله»، في إطلالته الأخيرة، إنذاراً واضحاً للمصارف بضرورة دعم الدولة اللبنانية مادياً لتمكينها من مواجهة كورونا. وفي تسريب متعمّد قيل انّ السيّد نصرالله عبّر في مجالسه الحزبية عن انزعاجه «بسبب تبرّع المصارف بمبلغ 6 ملايين دولار والتي تساوي أقل من ثمن شقة في وسط المدينة»، وانه «إذا لم يتجاوبوا مع دعوات مساعدة البلد فإنهم سيسمعون في إطلالته المقبلة خطاباً قاسياً»، والموقف الأخير لنصرالله ليس الأول من نوعه الذي انتقد فيه المصارف ودورها ولن يكون الأخير بطبيعة الحال.


 

وقد استفاد «حزب الله» في هجومه على المصارف من عاملين رئيسيين: العامل الأول يتعلق باستغلال وتضخيم بعض الاتجاهات اليسارية في انتفاضة ١٧ تشرين التي حرّضت على المصارف انطلاقاً من خلفيتها الشيوعية القديمة ورفضها للاقتصاد الليبرالي الحر، وبالتالي استفاد منها وحوّلها إلى غطاء يتلطّى خلفه لاستهداف المصارف. والعامل الثاني يتصل بالانهيار المالي الحاصل ومحاولة «تلبيسه» للمصارف تجنّباً لمحاسبة تطال السلطة السياسية المسؤولة الأولى والأخيرة عن الانهيار المتمادي والمتدحرج، وبما انّ الجسم المصرفي «لَبّيس» ويشّكل الحلقة الأضعف مقارنة مع السلطة الحاكمة، فمن الأسهل تحويله إلى «كبش محرقة» وحَرف الأنظار عن الجهة التي تتحمّل المسؤولية الأساسية في ما آلت إليه الأوضاع في لبنان.


 
 

وقد يكون لـ»حزب الله» مجموعة أهداف من وراء استهداف المصارف:

 

الهدف الأول، تغيير وجه لبنان المالي والاقتصادي كمدخل لتغيير وجهه السياسي، لأنّ كل محاولات وَضع اليد على النظام السياسي تمهيداً لتغييره عن طريق إلغاء الطائفية السياسية للإمساك بكل مفاصله لمرة نهائية باءت بالفشل، فلا الاحتلال السوري ولا سلاح الحزب تمكّنا من إطاحة التوازنات المجتمعية، فالقدرة على استمالة هذا الطرف أو ذاك يمكن ان تتبدّل في اي لحظة سياسية، لأنّ الثابت في هذه المعادلة هو الجماعات والمتحرك هم القوى السياسية، وبالقدر الذي تحافظ فيه الجماعات على قوتها وثباتها فلا قدرة على الإطاحة بالنظام السياسي المُستند إلى توازنات طائفية دقيقة، وما عجز النظام السوري عن تحقيقه لن يتمكن الحزب من فعله، وأحد ركائز هذا النظام الحرية ببُعدها الاقتصادي الليبرالي القائمة على المبادرة الفردية ونمط عيش اللبنانيين، وبالتالي إسقاط هذه الركيزة يؤدي تلقائيّاً إلى تغيير وجه لبنان ودوره ووظيفته ومن ثم وضع اليد على لبنان.

 

الهدف الثاني، ردّ فعل انتقامي بمفعول رجعي على التزام المصارف بالعقوبات الأميركية المفروضة على الحزب، وكأنّ المصارف قادرة على التفلّت من التعاميم الأميركية، بخاصة انّ اي محاولة للتذاكي او «الشطارة» تؤدي إلى إقفال المصرف فوراً، وهناك أكثر من مثل على هذا المستوى.


 
 

الهدف الثالث، تطويع المصارف كي لا تلتزم بشكل دفتري وحرفي بالعقوبات الأميركية، وان توفِّق بين الشروط الأميركية وبين حاجات الحزب ومتطلباته، بخاصة انه يتهم المصارف بدور «مَلكي أكثر من الملك»، حيث كلّ همّ الحزب أن تؤازره المصارف في التهرُّب بشكل أو بآخر من العقوبات، اي ان تتواطأ معه ضد الإدارة الأميركية، وهذا التفكير طبعاً هو نظري ومبسّط، لأنّ المسألة دقيقة للغاية في ظل تدقيق «يفَلّي النملة».

 

الهدف الرابع، أثبتت الأحداث انّ شعار محاربة الفساد الذي رفعه «حزب الله» فارغ من اي مضمون، فلا هو قادر على مواجهة حلفائه لحاجته لغطائهم لدوره وسلاحه، ولا هو بريء من تهمة الفساد التي تبدأ من إمساكه بالمعابر الشرعية وغير الشرعية البرية والبحرية والجوية، ولا تنتهي في نفوذه ببعض قطاعات الدولة المهمة. وبالتالي، يريد «ركوب» الموجة الشعبية بالهجوم على المصارف من أجل الظهور بمظهر المدافع عن الناس والمودعين، فيما سياساته ضمن الأكثرية الحاكمة هي التي أوصلت البلد إلى الانهيار.

 

فكل ما تقدّم من أهداف هو قائم وحقيقي وتشكّل منفردة ومجتمعة حلقة من الحلقات التي يعمل عليها الحزب، ولكن تيمّناً بطريقة الأهداف البعيدة والقريبة المدى، فإنّ الهدف الأقرب الذي يصوِّب عليه الحزب اليوم، والذي يمكن إدراجه كهدف خامس إلّا انه يتصدّر قائمة الأهداف، يكمن في الضغط على المصارف من أجل إلزامها بالتبرُّع للدولة من أجل تجنيب لبنان الانهيار الشامل.

 

فأولوية «حزب الله» في المرحلة الحالية تتجاوز الأهداف الأربعة مجتمعة إلى تلافي الفوضى في ظل وصوله مبدئيّاً إلى خلاصة مفادها تَعَذُّر فرملة عجلة الانهيار الشامل من باب المساعدات الخارجية التي لن تأتي أو الخطوات التي يمكن ان تتخذها الدولة، ويدرك الحزب انّ المدخل الوحيد اليوم لتلافي الانهيار الكبير والسقوط المدوّي والفوضى الشاملة والانفجار الاجتماعي يكمن في وقف الهدر في الكهرباء، ومعالجة التضخُّم في القطاع العام، وإقفال المعابر غير الشرعية وضبط المعابر الشرعية، واللجوء إلى إشراك القطاع مع القطاع الخاص في كل مؤسسات الدولة من أجل وقف الفساد والمحسوبيات والصفقات والسمسرات.

 

وبما انّ «حزب الله» لا يريد اللجوء إلى هذا الخيار الذي يشكل المتنفّس المتبقّي له ولحلفائه في ظل الأزمة المالية العالمية وأزمة إيران تحديداً والعقوبات المفروضة عليه، فإنه يعتبر انّ المصارف تستطيع ان تشكل البديل الذي يحول دون الانهيار الشامل او تساهم في تمديد الوضع المهترئ بانتظار معطيات جديدة وظروف أفضل، وهذا ما يفسِّر التهديد المتواصل للمصارف والذي من المتوقع أن ترتفع حدّته في الأسابيع المقبلة ويمكن ان يتخذ أشكالاً مختلفة، لأن لا بديل للحزب وحلفائه في الوقت الراهن سوى الضغط على المصارف من أجل ان تتعهّد بالتبرّع دفعة واحدة كبيرة أو بشكل منتظم لحماية مكتسبات الأكثرية الحاكمة وتجنيب لبنان السقوط الذي يُفقد هذه الأكثرية قدرتها على مواصلة الإمساك بمفاصل السلطة، بخاصة انها باتت على يقين بأنّ البلاد مقبلة على ثورة حمراء في ظل ارتفاع منسوب الجوع غير المسبوق والذي جاءت الأزمة الصحية لتُضاعفه، والكلام المستجد للحزب عن الخطة الاقتصادية هو للبحث عن مداخيل تبقى ما دون متطلبات الأزمة لأنه يرفض المقاربة الإصلاحية الشاملة.


 
 

وما تقدّم ليس دفاعاً عن المصارف التي تتحمّل جزءاً من مسؤولية ما آل إليه الوضع السيئ في لبنان، إنما طبعاً المسؤولية الأساسية تبقى على الأكثرية الحاكمة التي إمّا هي متواطئة وإمّا مقصِّرة عن القيام بدورها الرقابي وإمّا فاسدة حتى العظم وإمّا الاحتمالات الثلاثة معاً، ولكن المقصود الإضاءة على الخلفيات الكامنة وراء استهداف «حزب الله» للمصارف، فيما الأكيد بأنّ الحزب سيستخدم غضب الناس المعيشي والاجتماعي ويوجّهه ضد المصارف لا الأكثرية الحاكمة من أجل إلزامها بتبرّعات مفتوحة يمَدّد من خلالها سطوة الأكثرية الحاكمة على الدولة والناس.

 

ولكنّ السؤال ماذا لو تمنّعت المصارف عن التجاوب مع ضغوط «حزب الله»؟ وهل يلجأ وقتذاك إلى الإصلاح غير المشروط ومن دون سقوف وضوابط، أم يواصل السياسة نفسها مراهناً على الظروف والصدف ضمن سياسة حافة الهاوية نفسها؟