قبل أن يدخل لبنان مدار «التعبئة العامة» في زمن «كورونا»، كانت القطيعة الديبلوماسية لأركان السلطة قد بانت واضحة. فقد تعب البعض من تجاهل أركانها مجموعة من النصائح قبَيل تشكيل الحكومة الجديدة وبعدها، الى درجة اتّهم فيها البعض بالتدخّل في الشؤون الداخلية. ففضّلوا تجميد حركتهم بإيعاز رسمي عكسَ حجم الاهمال الدولي قبل دخول العالم مدار الوباء. فما الذي يعنيه ذلك؟ وهل هو مبرّر؟
 

في الأروقة الديبلوماسية «المَحجورة» كلام كثير ينمّ عن حجم الصدمة - المفاجأة التي يعيشها بعض الديبلوماسيين المعتمدين في لبنان. فلم يكن بعض أركان السلك الديبلوماسي قد استوعب بعد ما آلَ إليه الوضع الاقتصادي والنقدي في لبنان خلال اسابيع قليلة تَلت بوادر التعثّر المالي والتقنين المُعتمد للدولار الأميركي والعملات الأجنبية قبل الوصول الى مرحلة اعلان لبنان عن وقف دفع استحقاقات سندات «اليوروبوندز» لمالكيها من اللبنانيين والأجانب، الى أن انتشر وباء «كورونا» في البلاد فزادَ من نسبة القلق على حياة اللبنانيين والمقيمين على الاراضي اللبنانية من النواحي المختلفة الصحية والوبائية والنقدية.

 

ففي ظل ندرة الحراك الديبلوماسي، عُقد لقاء بين مجموعة من الديبلوماسيين وخبراء في شؤون المال وأصدقاء من اختصاصات متنوعة بالوسائل الالكترونية الرائجة، جرى خلاله تبادل الآراء حول مجريات الوضع في لبنان عَبّر فيه عدد من المشاركين عمّا لا يمكن البوح به صراحة على الأقل في المرحلة الراهنة.

 

 
 

وفي انتظار جلاء كثير من الوقائع وما يجري تداوله في الكواليس، توقّف احد الدبلوماسيين امام التطورات السلبية التي تحكّمت بالملفات المالية والاقتصادية عدا عن شكل العلاقات القائمة بين اركان السلطة في ظل تعطّل أدوار المعارضة، معتبراً انّ ما يجري التداول به بين اركان السلطة وطريقة مقاربتهم الامور لا يمكن تصديقه الى درجة ما. فرغم التحديات الداخلية والدولية الكبرى، ما زال البعض يقارب الامور وفق جدول اولويات يوحي أنه يعيش في بلد آخر. ويضيف: الجميع يدرك انّ لبنان يدفع أثمان تورّط البعض من ابنائه الى اليوم في بعض الأحلاف الإقليمية والدولية التي بلغت الذروة والتي لا يستطيع البلد تَحمّل تبعاتها. فما بلغته الأزمة الوبائية في الصين وبداية انتشارها في دول العالم قاطبة لم يغيّر من حجم المواجهات القائمة بين طهران وواشنطن وما بين ايران والدول العربية والاسلامية، في وقت واصَل بعض اللبنانيين التناغم مع مجرياتها.

 

وما يمكن الإشارة اليه اعتراف مدوّ لأحد الديبلوماسيين الذي عَبّر عن أسفه من عدم فهمه لمجريات الأحداث وتطوراتها السلبية في لبنان. ليقول انه لم يتوقع يوماً أن تصل الأمور الى ما وصلت اليه، وتحديداً على المستوى المالي والنقدي قبل ان تتراكم الأزمات وتتشابَك في ما بينها. ويضيف مستطرداً: «لقد أخطأنا عندما صدّقنا المسؤولين المصرفيين والسياسيين في كثير من الادعاءات التي تم التشاور في شأنها». وإذ دخل في التفاصيل، قال إنه تلقى دراسة من احد اصدقائه من الخبراء الماليين يُقلّل فيها من الأسباب التي قادت مؤسسات التصنيف الدولية التي قالت رأياً صريحاً في الأرقام المالية المُقلقة، مُستهتراً بمضونها ومشككاً بدقتها ومستخفّاً بسلسلة النصائح التي احتوتها. ولكن للأسف انتهت تلك المرحلة الى اكتشافنا ولو متأخّرين حجم الأزمة النقدية التي تعانيها البلاد منذ سنوات، واستطاع البعض ان يغلّفها بقراءات سياسية الى ان انفجرت في اقل من شهر ونصف شهر وتسبّبت بخلل فاضح في التوازنات والمعادلات الهَشّة في البلاد.


 
 

ويضيف هذا الديبلوماسي: «انّ الحلول السياسية المبنية على «الخصوصيات اللبنانية» لا يمكن ان تشكّل حلاً لِما هو مطلوب من السلطة في لبنان. فحديث البعض عن قرارات موجعة لم يكتمل فصولاً. فإن عَجزت الحكومات السابقة عن تطبيق الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي والمؤسسات المانحة لألف سبب وسبب سبق لنا أن حذّرنا منها في اكثر من استحقاق، فليس مضموناً انّ ما يتخذ اليوم من قرارات سيغير في النتائج المطلوبة. فالمجموعة الدولية التي شكّلت من اجل لبنان سبق لها أن قالت في مواقف يمكن تأريخها انه لم يكن مسموحاً منذ ذلك الزمن إهمال ما هو مطلوب سياسياً وديبلوماسياً كما اقتصادياً وإدارياً، ولكن كل هذه التحذيرات بقيت من دون أي صدى. فاستمر الإداء السيئ الذي شهدنا على نماذج فاضحة منه عند مقاربة الملفات الحيوية.

 

وإن لم توح السوابق انّ في إمكان لبنان عبور المراحل الصعبة، فكيف بالحري اليوم في ضوء ما تركته الأزمة النقدية والوبائية من انعكاسات مدمّرة في قطاعات واسعة. وإن بقيت السلطة على أدائها نفسه متجاهلة ما شهدته الساحة اللبنانية منذ 17 تشرين الأول الماضي وما رافق تداعيات المواجهات الإقليمية والدولية التي ما زالت تتفاعل بقوة، فكيف يمكن الخروج من مسلسل المآزق التي تعيشها البلاد؟

 

وانتهت الملاحظات التي تشعّبت في جوانب منها الى ما يمكن اعتباره نصيحة تقول بضرورة التحَوّط لمرحلة ما بعد «كورونا»، ومهما طالت حال «التعبئة العامة» فإنّ على اللبنانيين توقّع ما هو أسوأ مما يعيشه البلد اليوم. وإن نجحت هذه التجربة نسبياً في مواجهة هذا الإستحقاق الوبائي الخطير الذي فشلت في خَوضه دول قوية ومتمكّنة، فإنّ الاستعداد لما بعدها يفرض أداء جديداً لم نتلمّسه بعد. والأخطر ان بقيت «الهجرة الديبلوماسية» القائمة في لبنان بعد ترك عدد من السفراء سفاراتهم تعبيراً عن إهمال دولهم غير المسبوق به، وهو ما يهدّد بفقدان الاوكسيجين المطلوب للخروج من غرفة الانعاش. ولمَن يشكّك فليراجع وزارة الخارجية والسؤال عن حجم التجاوب الدولي مع مطالبها ومساعيها طلباً للعون، وليقرأ النتائج التي انتهت اليها.