طرابلس التي تُلام الآن وتُنتقد بسبب عدم التزام سكانها جميعاً بقرار «التعبئة العامة» والحَجْر المنزلي، هي طرابلس نفسها التي تغنّى بها اللبنانيون والوسائل الإعلامية الغربيّة خلال الشهور الأخيرة بعد «انتفاضة 17 تشرين»، ولُقّبت بـ»عروس الثورة». وإنّها طرابلس نفسها المحرومة والمنسية و»المحجورة»، منذ عشرات السنين، بسبب الإهمال وإغراقها بجولات العنف والدعاية السلبية... وهذا الحرمان هو الذي أشعَل الثورة في قلبها وساحاتها، وهو الذي يحبس أهلها الآن في شوارع الخطر بدلاً من حماية أنفسهم في منازلهم.
 

في منازل كثيرة في طرابلس، هناك وباء ينتظر ربّ العائلة ويفتك أكثر من وباء «كورونا»: إنه وباء الجوع الذي يتفشّى بين الأولاد، ووباء القهر المُنتقل من وجوه الأهل الى أعين الأطفال. «أنا ميّت ميّت... خلّوني طَلّع 3 آلاف ليرة، آخد خبز لولادي». هذا ما يقوله كلّ طرابلسي يرفض الخروج من الأسواق الشعبية. فكيف يُمكن فرض الحجر المنزلي على عائلات لا تملك أدنى مقومات الحياة، بدءاً من «لقمة الأكل»؟ هل إنّ الموت جوعاً مسموح، فيما أنّ الموت بـ»كورونا»ممنوع؟ وهل تكفي الحصص الغذائية لتأمين متطلبات الحجْر؟

 

حَجْر بلا غذاء!

حتى الآن، لم تسلك خطة الاستجابة لاحتياجات الأسَر الأكثر هشاشة وتأثراً بالأزمة الناتجة من فيروس «كورونا»، طريق التنفيذ. ومن المُفترض أن يُستخدم مبلغ الـ75 مليون ليرة الذي خصّصته الحكومة لتنفيذ هذه الخطة، لتأمين حصص غذائية وصحية، تكون قيمة الحصة الواحدة منها بنحو 120 ألف ليرة لبنانية، تُوزّع على المحتاجين بحسب داتا الوزارات والإدارات المعنية، بطريقة مدروسة، لأنّ هذه الخطة مستدامة لنحو 3 أشهر وليست لشهرٍ واحد فقط، حسب ما تؤكّد مصادر وزارة الشؤون لـ«الجمهورية».

 

هذه المساعدات لن تشمل 120 ألف عائلة لبنانية فقط بحسب لوائح المحتاجين القديمة، بل سيُعمل على أن تشمل أكبر عدد من العائلات المحتاجة، بعد جمع «الداتا» كلّها، لكي تشمل أقلّه 250 ألف عائلة. ولن تُخصّص حصة معينة من هذه المساعدات لمنطقة محددة وحصة أقل لمنطقة أخرى. وعلى رغم مرور نحو شهر على «الأزمة الكورونية»، لم تُوزّع هذه المساعدات بعد، فيما أنّ الحَجر المنزلي مفروض بالقوة، من دون تأمين مقومات الصمود الأساسية، خصوصاً للذين يَجنون «قوتهم» كلّ يومٍ بيومه، مثل أولئك في طرابلس الذين يتعرضون للإنتقاد.

 

وفي مدينة طرابلس يسكن نحو 750 ألف نسمة، يعيش 60 في المئة منهم ضمن ظروف صعبة، وترتفع النسبة الى 80 في المئة في بعض الأحياء السكنية، فيما تصل نسبة الذين يقبعون تحت خط الفقر، أي الذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً، الى نحو 23 في المئة من السكان، بحسب البنك الدولي، وقد تعدّت نسبة البطالة في المدينة أكثر من 35 في المئة. وبالتالي، من غير المستغرب أن يخرج أهلها في «زمن كورونا» من منازلهم، ويجولوا في الشوارع ضمن تظاهرات احتجاجية على الوضع الإقتصادي والمعيشي. كذلك، من غير المستغرب عدم الإلتزام التام بالإغلاق وعدم التجوّل في المناطق والأسواق الشعبية، حيث «يَكدّ» صاحب محل خضار أو سائق تاكسي لتأمين 10 آلاف ليرة لبنانية في اليوم لإطعام أولاده، ويجهَد بائع قهوة لتأمين 3 آلاف ليرة، فيما لا يتمكّن عدد كبير من المياومين في مدينة الفيحاء من جَنْي 2000 ليرة لبنانية في اليوم، حسب ما يؤكّد رئيس بلدية طرابلس الدكتور رياض يمق لـ»الجمهورية».

 

تعقيم بمياه ملوّثة

كذلك، هناك منازل كثيرة في المناطق الشعبية في طرابلس ليست بمنازل، إذ هناك منازل مهددة بالإنهيار، وأخرى متصدعة، وثالثة سقوفها من «تنك»، ورابعة تخلو من «الحمامات»، حيث المراحيض بدائية وفي الخارج. كذلك، إنّ المياه التي تصل الى المنازل في المناطق الشعبية ملوّثة، والنظافة منعدمة تقريباً. ويقول أحد أبناء هذه المناطق الفاعلين في المدينة: «الفقر المُدقع والنظافة خطّان متوازيان لا يلتقيان».

 

ويُشير يمق أنّ نسبة الإلتزام بعدم التجوّل في طرابلس تتخطّى الـ90 في المئة وتشمل كلّ دور العبادة، لافتاً الى أنّ هناك مسجدَين أو ثلاثة فقط غير منضوية تحت جناح دار الإفتاء، أقامت الصلاة خارجها. ويقول: «إنّ غير الملتزمين هم من يبيعون ويشترون في الأسواق الشعبية، وتحديداً في سوق الخضار، ونحاول تنظيم هذه الأسواق مع القوى العسكرية والأمنية والجهات المعنية، إن لناحية التعقيم أو محاولة تنفيذ الإقفال التام، وهذا الأمر ليس سهلاً فمن الصعب القول للناس: «لا تأكلوا».

 

وفي حين لن تكفي مساعدات الحكومة، خصّصت بلدية طرابلس مبلغ 3 مليارات ليرة لتأمين مساعدات غذائية، إستناداً الى قرار وزارة الداخلية الذي يسمح للبلديات في حالة الطوارئ بتخصيص مبالغ مالية لتوزيع الحصص الغذائية. ويُؤمّن هذا المبلغ نحو 35 ألف حصة غذائية، ستُوزّع في المناطق الشعبية كلّها، وكلّ منطقة الأسواق، فيما أنّ الحاجة في طرابلس أكبر، وتتخطّى الـ 50 ألف حصة غذائية، مع الإشارة أنّ الحصة الواحدة بالكاد تكفي لمدة شهر. لكنّ ملازمة المنزل تتطلب توافر مقومات عدة، لا تقتصر على الغذاء، فمن يدفع ثمن «جرّة الغاز» مثلاً، والمحارم والمعقّمات... وفواتير الكهرباء وغيرها؟

 

أصحاب الثروات «مخفيّون»

المدينة نفسها، تضمّ مناطق وأحياء غنية، وأنبتت رأسماليين كباراً وأصحاب ثروات طائلة، وسياسيين ووزراء ورؤساء حكومات. وفي حين تتسابق القوى السياسية المختلفة في طرابلس على توزيع «الإعاشات» في فترة الإنتخابات النيابية، نراها شبه غائبة اليوم. وتقول جهات عدة فاعلة في المدينة إنّ «أصحاب القدرات المتوسطة هم من يساعدون بما يقدرون عليه، فيما أنّ أصحاب القدرات الكبيرة والثروات التي تغطّي كل لبنان «مخفيّون».

 

ويُعتبر تيار «المستقبل» من الجهات الأساسية في طرابلس على رغم تراجعه نيابياً في انتخابات 2018. وإنّ تراجع نسبة المساعدات التي دأبَ على توزيعها على أهل طرابلس وسكّانها، مردّه الى وضع رئيس التيار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بحسب نائب طرابلس السابق مصطفى علوش، الذي يقول لـ«الجمهورية» إنّ «التيار يعمل ضمن القدرات الموجودة، ويوفّر بعض المساعدات. كذلك هناك مبادرات فردية لـ«مستقبليين». ويشير أنّ الحريري «يُساعد بمقدار ما يستطيع، وحين كان قادراً كانت المساعدات تفيض في طرابلس والشمال عموماً».

 

ويؤكّد علوش أنّ «إهمال طرابلس طوال الفترة السابقة لا يمكن أن يُعالج فوراً بهذه اللحظة، لذلك إنّ الوضع فيها الآن صعب ومعقّد ولا يُشبه حالة مناطق أخرى»، مشدداً على أنّ «حجم التدخّل الآن يجب أن يكون على مستوى الدولة».

 

وفي حين أعلنَ النائب هادي حبيش عن تبرّع الحريري بمبلغ 100 مليون ليرة لتجهيز مستشفى عكار الحكومي، كان رئيس الحكومة الأسبق إبن طرابلس النائب نجيب ميقاتي قد تبرّع بمبلغ 80 مليون ليرة لتمكين المستشفى الحكومي في طرابلس من شراء آلة PCR الخاصة بفحص «كورونا».

 

وتقول مصادر ميقاتي لـ«الجمهورية» إنّ «مؤسسات الرئيس تُقدّم منذ الثمانينات المساعدات الطبية والإستشفائية والإجتماعية والتعليمية الى أهل طرابلس والشمال، ولم تتوقّف هذه المساعدات في أيّ مرحلة، إنّما تضاعفت مع أزمة «كورونا»، لكن بعيداً من أيّ دعاية إعلامية». وتؤكّد المصادر «أنّه لا يُمكن لأيّ فرد أو مؤسسة الحلول مكان الدولة وتأدية وظيفتها، فدور الهيئات الإجتماعية هو مؤازرة الدولة»، مشيرةً أنّه يُعمَل الآن على إطار للتعاون بين كلّ المؤسسات والهيئات الناشطة في طرابلس، ومن بينها جمعية «العزم والسعادة» الإجتماعية، لتوحيد عمليات إعانة الناس، لأنّ الحاجة والعبء كبيران.

 

وفي حين تؤكّد كلّ القوى السياسية الفاعلة في طرابلس أنّ المدينة تشهد حرماناً كبيراً من الدولة، يسأل أهل طرابلس الذين انتفضوا في 17 تشرين الأوّل 2019 هؤلاء «القادة»: ألستم جزءاً من السلطة والدولة؟

 

وتعليقاً على الوضع الراهن في طرابلس، يقول أحد الناشطين: «كلّن بِيفِتّوا أكتَر وقت الإنتخابات»، أمّا «من يريد أن يفرض القانون على فقراء طرابلس فعليه تأمين بديل لهم عن العمل أو حتى «الشحادة»، وقد يُمكن فرض الحجر لبضعة أيام، لكن مجرّد أن يجوع الأولاد، لن يجلس أحد في المنزل».