فلسفة المال، هي التي تقف وراء كل أعداد الموتى الذين تتكدس جثثهم اليوم على أعتاب نظام رعاية يخادع الناس بعموميته ومجانيته الكاذبتين، ولن يمكنه أن ينقذ إلا أفرادا قلائل.
 

يمثل وباء كورونا إعلانا مُدوّيا بفشل أعتى أنظمة الخدمات الصحية في العالم، وأكثرها إنفاقا. ولقد تبيّن بما لا يقبل الجدل أنها مؤسسات لا تصلح إلا لخدمة أفراد. فهي بُنيت على هذا الأساس. ولقد كانت فلسفة جديرة بالاعتبار، ولكن يتضح الآن، أنها غير كافية، ولم تعد تلائم عصرا يمكن للأوبئة أن تكون تحديا متواصلا.

كأفراد، يمكن أن نحصل على رعاية مرموقة من خدمات الصحة العامة في إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا. وهي واحدة من أفضل قيم التضامن الاجتماعي التي نجحت الرأسمالية الحديثة في تبنيها. ولولاها ما كانت لتتوفر لها فرصة البقاء، أمام تحديات “البيان الشيوعي” الشهير.

ولكن ها نحن أمام منقلب كبير وخطير؛ كبير بسعة ضحاياه، وخطير بعمق ما يفرضه من أسئلة.

كانت الأرقام تتوالى عندما أعرب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدناهوم غيبريسوس عن دهشته بالقول إن “المئة ألف الأولى لأعداد المصابين تطلبت 67 يوما قبل أن تتضاعف، بينما جاءت المئة الثالثة في غضون أربعة أيام”. ثم لم تمض ساعات يومين أو بعضهما، لنبلغ المئة ألف الرابعة. ولن يُنشر هذا المقال، قبل أن نبلغ الخامسة أو حتى السادسة.

الفشل الحقيقي تجسد في زوايا مرعبة للأرقام. ولست أعتزم استخدامها لأنها تتغير كل ساعة. ولكن النظر في معاني النسب، يمكن أن يسلط الضوء على حجم ذلك الفشل وخطورته.

الصين تبدو وكأنها قامت بعمل خارق. وإذا شئت أن تأخذ الأمور بظاهرها الحسن، فقد أعلنت عن معدل وفيات يكاد لا يتجاوز 0.4 في المئة من مجموع الإصابات. وأعلنت عن معدل شفاء خارق، يبلغ 92 في المئة من ذلك المجموع. وهو ما لم تحققه أيّ مؤسسة صحية في كل أرجاء العالم.

سوف يكون مطلوبا من الصين أن تشرح للعالم، كيف فعلت ذلك. وإلا فلن يتردد المشككون، ومنهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقول إنهم ربما “تشافوا” من الحياة نفسها، في ظل نظام لا يقول الحقيقة.

الجميع كان يرى أن الحجر الصحي المشدد على إقليم هوبي، ومدينة ووهان بالذات، حمى 1.4 مليار إنسان في عموم الصين من الوقوع فريسة للمرض. ولكن شفاء نحو 74 ألف مصاب، من بين 82 ألفا، ما يزال لغزا. فلو كان الأمر يتعلق بعلاجات، فالعالم بأسره بحاجة لها، ويجب أن يُكشف عنها النقاب. ولو كان الأمر يتعلق بتوفر معدات، فيجب أن يقال ما هي، وكيف جاز لمثيلاتها ألا تحقق النتائج نفسها.

الفشل على الضفة الأخرى ظل طاغيا. في إيطاليا، توفي 0.9 في المئة من المصابين، وشفي 1.2 في المئة منهم، والباقي ما يزالون يصارعون الموت والمرض. وهذه نسبة خرافية بالنسبة إلى واحدة من أفضل مؤسسات الخدمات الصحية في أوروبا. الشيء نفسه تكرر في اسبانيا. إذ توفي نحو 0.7 في المئة من المصابين، وشفي نحو 0.9 في المئة منهم، وظل عشرات الآلاف ينتظرون مصائرهم. نسب الوفيات إلى أعداد المصابين كررت الفشل نفسه في فرنسا وبريطانيا. وعلى الرغم من أن أعداد الوفيات سجلت أدنى معدل في ألمانيا، دون سائر الدول الأوروبية الأخرى، فان معدلات “عدم الشفاء” ظلت هي الأعلى لتكون “الرقم” – الفضيحة الأهم.

فرديا، كان يمكن لأيّ إنسان أن يدخل المستشفى بأعقد المشكلات الصحية أو الجراحية ويخرج متعافيا في غضون أيام.

نقص التجهيزات في كل مكان، لم يأخذ في نظر الاعتبار مخاطر جائحة. هذا شيء لم يكن بوسع فلسفة الرعاية الطبية الأوروبية – الأميركية أن تراه من الأساس. ولهذا السبب توفي الآلاف بسبب النقص في أجهزة التنفس. وسجلت إيطاليا حكايات مروّعة لأطباء لم يعرفوا كيف يختارون بين من يعيش ومن يُترك ليموت.

 

نظام صحي كان يبدو أخلاقيا للغاية، بمعاييره الفردية، لم يعد كذلك الآن. وانهيار الأخلاقيات إنما يطرح تحديات أخلاقية على نظام خدمات ينظر إلى كل مريض على أنه “زبون”.

صحيح أن دافعي الضرائب هم من يموّلون نظام الخدمات الصحية العامة، في شكل من أشكال التضامن الاجتماعي، إلا أن النظام نفسه، كان “يحاسب” كل فرد في المجتمع، ويحسب عليه. وعندما جاء “المجتمع” كله مريضا، انفرط عقد النظام. ولكن ليس لأن الكلفة عالية، بل لأنه لم يكن من “الاقتصادي” أن يوفرها من الأساس.

التنافس الراهن بين مؤسسات الاختبار والبحوث من أجل العثور على علاج لـ”كوفيد – 19″، ليس تنافسا من أجل خدمة البشرية. هذه خدعة يحسُنُ ألا ينخدع بها أحد. إنه تنافس من أجل الربح؛ تنافس من أجل المال، بين أمم لا تتردد حكوماتها في توفير مئات المليارات لإقناع الضحايا بأنهم في مأمن.

شركات الدواء التي رفضت “الكلوروكين” الذي كان يُستخدم لعلاج الملاريا، فعلت ذلك، لأن هذا الدواء، بصرف النظر عن مدى فاعليته، سقطت عنه “حقوق الملكية الفكرية”، وصار بوسع أيّ شركة إنتاج دوائي أن “تطبع” منه ما تشاء بأرخص التكاليف.

لستُ أشير إلى “كلوروكين” على أنه معجزة. هذا غير مناسب أصلا ومخادع أيضا، على الأقل لأن علاجا مجربا لشيء، يتطلب تطويرا ليكون مؤهلا لعلاج شيء آخر. ولكن عندما تتصل المسألة بالمال، فإن كل مجسات الجشع الرأسمالي سوف ترتفع لتتقصى أثر الرائحة.

أنظمة الرعاية الصحية، والتي تكرست على امتداد 70 عاما، لتكون عامة ومجانية، يظهر الآن بوضوح أنها ليست عامة ولا مجانية.

وحده نظام “شيوعي” كالنظام الصحي في الصين أو كوبا يستطيع أن يتبنى المفهوم. وليس من العجيب، أن ينهض وكأنه فرقة عسكرية لنجدة المجتمع.

المسألة، من ناحية المفهوم، هي التي تحدد ملامح الفرق بين أن تخدم المجتمع كأفراد، وبين أن تخدمه كمجتمع.

140 مليارا سنويا من أموال دافعي الضرائب، يُنفقها نظام الخدمات الصحية في بريطانيا. ولكن أنظر إلى “النظام الطبقي” الذي يغمره وستعرف كم أنه نظام فاسد حتى النخاع. الممرضون والممرضات فيه هم “الطبقة العاملة”، بينما الأخصائيون الذي يتقاضون أجورا بالملايين، هم أرستقراطية النظام. وعندما يعالجونك، فإنهم يُحسنون العمل، ولكن بوصفك فاتورة. ويتصارعون مع المؤسسة لتقليص عدد العمليات التي يقومون بإجرائها، لكي يكسبوا من الوقت ما يكفي للركض وراء المستشفيات الخاصة التي تقدم لهم أجورا أعلى.

فلسفة المال، هي التي تقف وراء كل أعداد الموتى الذين تتكدس جثثهم اليوم على أعتاب نظام رعاية يخادع الناس بعموميته ومجانيته الكاذبتين. ولن يمكنه أن ينقذ إلا أفرادا قلائل، كما تكشف الإحصاءات التي لم يتفحص معناها إلا من فجعته الفاجعة.

لن تعدم أبطالا، بشرا، يفعلون المستحيل لإنقاذ الأرواح في هذه الأنظمة. ممرضات وأطباء إيطاليا قدموا شهادات حية لكفاح نبيل. ولكن حتى هذا الكفاح ظل فرديا.

نوع من “شيوعية الروح” (وليس النظام السياسي) هي وحدها التي تستطيع أن تجعل الكفاح تضحية مجردة من أجل الإنسانية نفسها. وجيش كجيش الشعب في الصين وكوبا، هو من يمكنه أن يجسد تلك الروح. وليس جيوش الغزوات الغربية التي ما تزال تجرجر أقدامها في تقديم المساعدة.

هذه الجيوش مؤهلة لكي تدمّر وتقصف وتستخدم أسلحة فتاكة، وهي ليست مؤهلة للعب دور إنساني. هذا موضوع خارج ثقافتها أصلا.

ولن تعثر على جنرال مثل تشين واي، في أي جيش آخر في العالم. وهي عالمة أوبئة صينية شهيرة، آثرت أن تجرّب لقاحا على نفسها وهي تقود فريق بحث تبرع كل أفراده أن يجربوا اللقاح أيضا.

روح كهذه لن يعرفها الغرب، لا حكوماته ولا مستشفياته، حتى يعود ليقرأ “البيان الشيوعي” و”الثامن عشر من برومير” و”رأس المال”، فيصحو على كابوس ما فعل أكثر أنظمته “التضامنية” فشلا.