تؤكد كل التوقعات أنّ تداعيات وباء «كورونا» ستتمظهَر في أسوأ تجلياتها الكارثية، بعد الانتهاء من هذه الأزمة الجرثومية، بعد شهر او شهرين او ثلاثة، أو سنة وربما أكثر. إقتصاديات منهارة، وأخرى تعاني. فقر واسع، وربما يرسم خرائط سياسية جديدة ويخلط أوراق العلاقات ما بين الدول. لبنان، لن يكون بمنأى عن تلك التداعيات، بما يطرح السؤال حول ما اذا كان جسمه الاقتصادي المتداعي قادراً على الصمود في وجهها، او انها ستُجهز على البقية الباقية منه؟
 

هذه الصورة، بما فيها من سواد، وتداعيات كارثية؛ لم تنجح حتى الآن في ان تحمل السلطة الحاكمة على ان تقدّم نفسها مسؤولة عن البلد، بل على العكس، ما يعنيها ليس سوى استغلال فرصة الانهماك بأولوية مكافحة الوباء الخبيث، لتمرّر من خلفها مصالحها ومكاسبها!

 

على انّ المجاهرة بـ«لا مسؤولية» السلطة الحاكمة لا تعني انّ في هذا التوصيف ظلماً لها او افتراءً عليها، فـ«اللامسؤولية» يؤكدها أداؤها، السابق للوباء واللاحق له. فتقدّم أولوية مواجهته، على سائر الاولويّات، شكّل قنبلة دخانيّة حجبت الرؤية:


 
 

اولاً، عن واقع الحكومة التي لم تتلمّس - منذ ما قبل «كورونا» - عملاً ايجابياً واحداً، مما هو مطلوب منها ووعدت بتنفيذه على طريق الانقاذ الاقتصادي والمالي.

 

ثانياً، عن عجز الاكثرية التي أنتجت الحكومة عن تأمين مظلة أمان لحكومة يفترض انّها إصلاحية لكي تنجز ما هو مطلوب منها في السياق الانقاذي والاصلاحي، خارج «كورونا»، والمثال تَبدّى في الاشتباك السياسي الحاد والمستمر بين عقليّتين: عقليّة الإنتقال الى مرحلة داخليّة جديدة تحاكي المطالب الشعبيّة التي صاغَتها انتفاضة 17 تشرين الاول 2019، وعقليّة مصرّة على البقاء في مرحلة ما قبل الانتفاضة، على اعتقاد منها انّ «كورونا»، وبالاجراءات التي اتّخذت حيالها عبر التعبئة العامة الصحيّة والتزام المنازل وعدم الاختلاط والتجمعات، أنهت الحراك الشعبي نهائياً، وفرضت عليه حجراً إلزامياً، ولم يعد يمتلك القدرة على التحرّك في الشارع وإبداء الاعتراض.

 

تِبعاً لهاتين العقليتين باتت الحكومة حلبة اصطفافات داخلها، واختلافات حادة في الرؤى والتوجهات بين مكوّناتها. وهو ما تَبدّى في ثلاثة مواضع:


 
- الاول، من خلال الطريقة التي أدير بها مشروع «الكابيتال كونترول» في مجلس الوزراء، والتي قسّمت الحكومة الى جبهتين، واحدة الى جانب المودعين، والثانية شكلت قوة دفاع وحماية للمصارف وما تقوم به من إذلال للمودعين وسَطو على ودائعهم. وهو ما تبدّى في الاستماتة على تمرير المشروع على الرغم من إصرار وزير المال غازي وزنة على سحبه، بعدما تبيّن انّ هذا المشروع الذي وضع بصيغته الاولى لحماية حقوق المودعين، جعلته التعديلات التي أدخلت عليه من مصرف لبنان وجمعية المصارف وبعض الحكومة، في خدمة المصارف. وفي النهاية سُحب المشروع نهائياً. وأحيل الأمر الى تطبيق المادة 174 من قانون النقد والتسليف، التي تجيز لمصرف لبنان إعداد ضوابط لتنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين.

- الثاني، من خلال المعركة على تعيينات نواب حاكم مصرف لبنان الأربعة، جرّاء إصرار قوى معيّنة على تعيينات بلا مداخلات سياسية، ووفق معايير الكفاءة والافضلية لمَن تتوفّر فيه مواصفات الجدارة لتبوّء هذا المنصب، مقابل إصرار قوى اخرى على تعيين مقرّبين في هذا المنصب. وهناك من يضع «التيار الوطني الحر» بجناحيه الرئاسي والسياسي في خانة الاتهام بهذا الاصرار، وهو أمر يؤشّر الى انه سيسحب نفسه على سائر التعيينات في المراكز الشاغرة الاخرى، وهذا معناه القفز فوق كل ما جرى منذ 17 تشرين الاول، والعودة الى بازار التعيينات الذي كان يجري على قاعدة «على السكّين يا بطيخ»؟!

- الثالث، من خلال الطريقة التي تمّ فيها تعطيل، أو تجميد التشكيلات القضائية التي أعدّها مجلس القضاء الاعلى، بحيادية تامة، وبناء على معايير عامة لم يراعِ فيها السياسة، بل راعى الجدارة والكفاءة والدرجة، والمعنيون بهذه التشكيلات يدركون من هو المعطّل، والاسباب الحقيقية لهذا التعطيل.

 

بناء على ما تقدم، يعترف قريبون من المثلّث السياسي المشكّل للحكومة، بأنّ أضلاع هذا المثلث بدأت تعاني اهتزازاً خطيراً، جرّاء الضربات السياسية المتلاحقة التي تعرّض لها، بدءاً من تعطيل التشكيلات القضائية، والاشتباك السياسي حول إعلان حالة الطوارىء، وإصرار احد أضلاع هذا المثلّث على التسلّل من خلف «كورونا» لفرض إرادته في التعيينات، ليس في حاكمية مصرف لبنان، بل في مواقع اخرى يُراد ملؤها بموظفين من ألوان سياسية معيّنة خلافاً لمبدأ الكفاءة والجدارة، وصولاً الى الانقسام الحاد حول «الكابيتال كونترول».

 

ويضيف هؤلاء «انّ أولوية مواجهة «كورونا» قدّمت خدمة جليلة للحكومة، ومَكّنتها من تجاوز هذه القطوعات، إلّا أنّها أبقَت الواقع الحكومي جمراً تحت الرماد، وموقف سليمان فرنجية وتحذيره من «استغلال انتشار «كورونا» لتهريب بعض التعيينات وتمرير الصفقات»، وتلويحه بالخروج من الحكومة ما لم يُصَرْ الى «تعيينات شفافة»، لم يكن مُستهجناً لدى حلفائه، بل كان وحده الموقف المعلن، إذ إنّ أطرافاً أخرى لم تكن بعيدة عن مثل هذا الخيار. فلولا «كورونا»، على ما يقول هؤلاء المقرّبون من مثلّث التشكيل، لكان هناك كلام آخر عن الحكومة!