نشأ عن الأزمة الاقتصادية والمالية، والتي كان أحد أوجهها النقص في السيولة بالدولار الأميركي لدى مصرف لبنان، جدل حول ما إذا كان يجوز لمصرف لبنان - أم لا - التصرّف بالمبالغ المودعة لديه بالدولار الأميركي من قِبل المصارف بصورة إلزامية، على سبيل تكوين الاحتياطات الالزامية أو التوظيفات الإلزامية المحدّدة نِسبها بموجب التعاميم ذات الصلة.
 
 
السؤال المطروح يكتسب أهمية حيوية إذا ما علمنا أنّ قيمة الاحتياطات بالدولار الأميركي تبلغ حوالى 18 مليار دولار أميركي، وبالتالي فهي - كجزء من مطلوبات مصرف لبنان - تشكّل عبئاً يثقل الجزء الأساسي من السيولة المتبقية لديه لتأمين الإحتياجات الأساسية من غذاء ودواء وطاقة. وتتضاعف أهمية السؤال في ضوء آثار وانعكاسات إجازة أو عدم إجازة تصرّف مصرف لبنان بالسيولة المتبقية لديه، من دون احتفاظه بمبلغ يكفي لتغطية الإحتياطات المرقومة أعلاه. ففي الحالة الأولى، يكون ثمة هامش من السيولة لا يزال متوفراً لتأمين الحاجات الأساسية، وإنما على حساب إحتياطي ودائع المواطنين الذي سيتمّ إستنفاده (بالكامل ربما)، في حين أنّ عدم إجازة إستعمال المبلغ الموازي لهذا الاحتياطي سيؤدي الى عجز مصرف لبنان عن تمويل الدولة لتوفير هذه الاحتياجات، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات اقتصادية واجتماعية ومعيشية كبرى.
 
 وبين مطرقة الإجازة باستعمال هذه المبالغ وسندان منع إستعمالها، لا بدّ من قراءة موضوعية مجرّدة للأحكام القانونية والتنظيمية التي ترعى إيداع الأموال من قِبَل المصارف لدى مصرف لبنان، وتنقسم هذه الودائع الى فئتين:
 
1- الودائع غير الإلزامية:
 
هي الأموال التي يختار أي مصرف بمطلق إستنسابه أن يودعها لدى مصرف لبنان من دون أن يكون مُلزماً على فعل ذلك. تنطبق على هذه الودائع الطبيعة القانونية للوديعة المصرفية كما حدّدتها المادتان 122 و 123 من قانون النقد والتسليف، معطوفتان على المادة 307 من قانون التجارة. فبمقتضى هذه المواد القانونية، إنّ الطبيعة القانونية للوديعة المصرفية هي عارية الاستهلاك، التي تنتقل بموجبها الى المصرف الوديع ملكية المبلغ الذي يتلقاه على سبيل الوديعة.
 
بمقتضى هذا التصنيف القانوني للوديعة المصرفية، يكون ثابتاً، أنّ ملكية الأموال التي تودعها المصارف من تلقائها لدى مصرف لبنان، تنتقل الى هذا الأخير، الذي يكون له الحق باستعمالها وفق أحكام المادة 691 من قانون الموجبات والعقود، مع الحفاظ على حقوق المودع لجهة توجّب إعادة قيمة الوديعة له.
 
فهل ينطبق هذا التصنيف القانوني على الأموال التي تكون المصارف مُلزمة بإيداعها لدى مصرف لبنان بالدولار الأميركي؟
 
2- الأموال التي تُلزم المصارف بإيداعها لدى مصرف لبنان:
 
المسألة المطروحة حالياً تنحصر بمعرفة ما إذا كان ينطبق - أم لا - على الأموال التي يتوجب لزوماً على المصارف أن تودعها لدى مصرف لبنان بالدولار الأميركي (بمقتضى نصوص تنظيمية مُلزمة) نفس المبدأ والمعايير المفصّلة أعلاه والمتعلقة بالودائع العادية. فإذا اعتُبرت المبالغ المودعة إلزامياً بمثابة ودائع غير الإلزامية، جاز لمصرف لبنان إستعمالها؛ فيما لا يكون جائزاً لمصرف لبنان إستعمالها إذا كانت تخضع لوصف أو طبيعة قانونية مختلفين. وبتعبير أدقّ، هل يمكن لمصرف لبنان استنفاد سيولته من دون احتفاظه بالمبلغ الكافي لتغطية هذه الودائع الإلزامية التي تشكّل جزءاً من مطلوباته؟
 
للإحاطة بهذه المسألة، لا بدّ بدايةً من الرجوع الى تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 86 المتعلق بتوظيفات المصارف الإلزامية. وقد أوجب هذا التعميم بموجب مادته الأولى على المصارف كافة أن تودع لدى مصرف لبنان نسبة 15% من جميع أنواع الودائع مهما كانت طبيعتها التي تتلقاها بالعملات الأجنبية. وقد نتج من إلتزام المصارف بإيداع هذه النسبة الإلزامية وجود مبلغ 18 مليار دولار أميركي تقريباً لدى مصرف لبنان، يشكّل جزءاً من مطلوبات هذا الأخير.
 
إن المدافعين عن نظرية جواز إستعمال مصرف لبنان للأموال المودعة لديه إلزامياً من قِبل المصارف، يستندون الى حجتين أساسيتين هما:
 
- إنّه لا وجود لنص مانع صريح في القانون يقصي أو يستبعد جواز إستعمال مصرف لبنان لهذه الأموال.
 
- إن نص التعميم الأساسي رقم 86 لم يصنّف المبالغ المودعة على أنّها "إحتياطات إلزامية" بل إعتبرها "توظيفات إلزامية"، وذلك خلافاً لنص تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 84 الذي فرض في مادته الثالثة على المصارف " تكوين إحتياطي إلزامي نقدي لدى مصرف لبنان على مجموع الإلتزامات الصافية بالليرة اللبنانية الخاضعة للإحتياطي الإلزامي"
 
للجواب على هاتين الحجتين، لا بدّ من الرجوع الى أحكام قانون النقد والتسليف، التي يستمدّ منها مصرف لبنان صلاحياته باتخاذ التدابير الملائمة ويضع التنظيمات الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها والحفاظ على سيولتها وملاءتها.
 
منحت المادة 76 من قانون النقد والتسليف لمصرف لبنان صلاحية إتخاذ التدابير التي يراها ملائمة في سبيل الإبقاء على الانسجام بين السيولة المصرفية وحجم التسليف من جهة، وبين مهمته العامة المحدّدة في المادة 70 بالمحافظة على سلامة النقد وسلامة أوضاع النظام المصرفي. ومن ضمن الصلاحيات المذكورة، يستوقفنا البند "د" من المادة 76 المشار إليها، الذي ألزم المصارف بأن "تودع لدى مصرف لبنان أموالاً (إحتياطي أدنى) حتى نسبة معيّنة من إلتزاماتها الناجمة عن الودائع"، وكذلك البند "ه" من نفس المادة الذي ألزم المصارف بأن "تودع لدى مصرف لبنان أموالاً (إحتياطياً أدنى خاصاً) حتى نسبة معينة".
 
وبالتالي، فإنّ نص المادة 76 من قانون النقد والتسليف يساوي بين "الإيداع الإلزامي للأموال" (وهي التسمية المعتمدة في التعميم الأساسي رقم 86) وبين "تكوين الإحتياطي الأدنى" (وهي التسمية المعتمدة في التعميم الأساسي رقم 84 للإيداعات بالليرة اللبنانية)، بل ويعتبر، أنّ المبالغ المودعة لزوماً لدى مصرف لبنان بمثابة الإحتياطي الأدنى، بحيث لا يعود ثمة مجال للتفريق بين النصّين المعتمدين في التعميم الأساسي رقم 84 والتعميم الأساسي رقم 86، لكون أنّ كلّ مبلغ يوجب مصرف لبنان على المصارف إيداعه لديه يشكّل إحتياطياً أياً تكن التسمية أو الصيغة أو النص المعتمد بشأنه.
 
وبالتالي، فإنّ الحجة المستمدة من نص التعميمين المشار إليهما لا تستقيم في ضوء نص المادة 76 المذكورة. كما وأنّ إستعمال عبارة "التوظيفات الإلزامية" في التعميم الأساسي رقم 86، يصبح من دون طائل أو أثر على اعتبار أنّه أمام موجب إيداع إلزامي لأموال محدّدة نسبتها من قِبل مصرف لبنان، وهي بالتالي كاحتياطي إلزامي بموجب المادة 76.
 
ويتأكّد ذلك من خلال أحكام المادة 77 من قانون النقد والتسليف، التي أوجبت بأن تبلغ الموجودات الشهرية للمصارف (الإحتياطي الفعلي) لدى المصرف المركزي على الأقلّ النِسب المئوية المحدّدة من قِبل مصرف لبنان من المتوسط الشهري للإلتزامات الخاضعة لموجب إنشاء أموال إحتياطية (الإحتياطي الإلزامي). يُستفاد من نص المادة 77 المذكورة النتيجتان التاليتان:
 
- لقد اعتبرت هذه المادة أنّ الموجودات الشهرية للمصارف التي تودع لدى مصرف لبنان نتيجة موجب إنشاء نسبة مئوية محدّدة من قِبل مصرف لبنان، تشكّل إحتياطياً فعلياً وإلزامياً. بمعنى آخر، إنّ كل إيداع إلزامي لدى مصرف لبنان يشكّل إحتياطياً إلزامياً.
 
- لقد جاء نص المادة 77 مطلقاً لناحية عدم تحديد الجهة المُلزمة بموجب عدم إنقاص الأموال الإحتياطية عن النِسب المئوية المحدّدة. أي إنّ هذا الموجب يقع على عاتق المصارف ومصرف لبنان على حد سواء.
 
واستفاضةً بالبحث، نشير إلى أحكام المادة 174 من قانون النقد والتسليف، التي يستند إليها كلّ من تعميمي مصرف لبنان رقم 84 و86، والتي أجازت تحديد قواعد تسيير العمل التي يجب على المصارف الإلتزام بها حفاظاً على سيولتها وملاءتها. إنّ هذا الإستناد يعني أنّ موجب إيداع الأموال لدى مصرف لبنان - أكان حاصلاً تحت تسمية الإحتياطي الإلزامي أو تحت تسمية التوظيفات الإلزامية بالنسبة للودائع بالدولار الأميركي - يهدف إلى الحفاظ على سيولة المصارف المودعة وملاءتها. وبالتالي، لا يجوز لمصرف لبنان إستعمال هذه الأموال، لأنّ ذلك يتعارض مع موجب محافظته على ملاءة وسيولة المصارف وسلامة أوضاع النظام المصرفي (المادة 70 قانون النقد والتسليف).
 
الخلاصة
 
في أوقات الأزمات الكبرى يجنح الإنسان بطبيعته (كي لا نقول غرائزه) الى إستنفاد الموارد بشتى الوسائل لمواجهة الضغوط المالية والاقتصادية، ويحاول إستنباط حجج تجيز له التصرّف بتلك الموارد لمواجهة ضرورات المرحلة. إلاّ أنّ الخط الفاصل بين ما يجوز فعله وبين ما لا يجوز يبقى واضحاً وبسيطاً، فما هو غير جائز قانوناً خارج وقت الأزمات يبقى غير جائز خلالها.