نشرت صحيفة الأخبار تقريراً للباحث التربوي ماجد جابر حول التعليم عن بعد، وهذا ما جاء فيه.
 
 
لم يكن ينقص النظام التربوي في لبنان سوى فيروس بيولوجي عالمي ليظهر مدى هشاشته وتأخره عن اللحاق بالركب التربوي المعاصر. فالنظام يعاني، أصلاً، من تحكم فيروسات متنوعة في بنيته وتركيبته، أبقته في تخبط دائم، ومنعته من بناء مناهج تعليمية جديدة رغم مضي نحو 22 عاماً على وضع المناهج التجريبية عام 1997. فالمناهج الحالية تفتقر إلى الجهوزية التكنولوجية والموارد الرقمية. إذ أن الجهود كانت تنصبّ دائماً على تعديل هذه المناهج لناحية تحسين محتوياتها وامتحاناتها الرسمية، من دون الالتفات الى ضرورة رقمنتها وإدخالها عبر البوابات الإلكترونية، كما تفعل معظم دول العالم. ولا شك في أن غياب الجهوزية وضع المدارس أمام واقع صادم وتخبّط كبير في التعامل مع تداعيات أزمة فيروس «كورونا»، لناحية إيصال التعليم الى التلامذة داخل منازلهم.
هذا الواقع المستجد دفع المدارس إلى انشاء منصات وبوابات إلكترونية تعليمية متنوعة، متزامنة (تفاعل مباشر مع التلامذة) وغير متزامنة. وبكبسة زر، أصبح مطلوباً من المعلمين اكتساب كفايات ومهارات التعليم الرقمي والانخراط في عملياته (إعداد المحتوى الرقمي من الصور والنصوص والأصوات والفيديوهات، الاتصال بالتلامذة لتزويدهم بالمحتوى الرقمي، والتفاعل مع التلامذة للحصول على تغذية راجعة)، في أقل فترة من التدريب قد لا تتجاوز الساعتين في كثير من الحالات. بعدها، يصبح المعلم مسؤولاً عن إدارة الموقف التعليمي عن بعد. والأصعب من هذا، أن معلمين كثراً تُركوا لمصيرهم من دون أي توجيه، بعد تعذّر حضورهم ومشاركتهم في عمليات التدريب الخاطفة لظروف متنوعة. في حين وجد أولياء أمور التلامذة أنفسهم أمام ضغوط جديدة ومضاعفة، في كيفية إدارة الأمور التعليمية في المنزل، الى جانب ضغوطهم النفسية الناجمة عن أعباء المعيشة والتوجس من الإصابة بالوباء.
ورغم استخدام المدارس أشكالاً متنوعة من البرامج والمنصات الالكترونية التعليمية المعدة، والتطبيقات الشهيرة مثل الواتساب والتلغرام والسكايب وغيرها، الا ان التجربة أظهرت، حتى الآن، أن طريقة التعليم المعتمدة لم تحقّق الكفاءة اللازمة والانتاجية المطلوبة بسبب عوامل عدة، منها ما هو مرتبط بضعف كفايات المعلم الرقمية، ومنها ما يتعلق بالموارد المتاحة ( برامج، انترنت، أجهزة...)، ومنها ما يرتبط بظروف الطلاب المعيشية والاقتصادية والصحية والاجتماعية.
إزاء هذا الواقع، أعدت وزارة التربية من خلال المركز التربوي للبحوث والانماء خطة «التعليم عن بعد» بهدف استمرارية التعليم وضمان وصوله الى الجميع من مختلف الطبقات والمناطق، ولردم الهوة الشاسعة التي افرزها تفاوت الامكانات المادية والموارد التكنولوجية بين مدرسة واخرى. الخطة التي سيتم تنفيذها عبر التلفزيون والانترنت، تضمنت محاور ثلاثة متعلقة بعملية التعليم الرقمي وهي: 1) المحتوى الرقمي ويتضمن عرض المحتوى من خلال حصص تعليمية تعلمية مسجلة وانشاء مكتبة رقمية؛ 2) البث التلفزيوني ونظام إدارة التعلم الى جانب إدارة متزامنة البيانات؛ 3) الحصص التعليمية التعلمية المسجلة واعتماد برنامج الصف الإلكتروني وتطبيق تقنية Whitelistening ، الى جانب تقديم الدعم التقني التعليمي للمعلمين والمتعلمين عند الحاجة، فضلا عن تدريب المعلمين على دورات تدريبية إلكترونية وتسجيلات تفصيلية.
لا خلاف في أنّ هذه الخطة تبعث على الأمل بواقع تعليمي جدير بالتقدم. كما أنها محاولة مسؤولة، ضمن الامكانات المتاحة، لإنقاذ العام الدراسي والامتحانات الرسمية من الضياع. ولا شك في أنها وضعت أجوبة للأسئلة الاساسية حول آلية تحقيق أهدافها : لماذا؟ (الأهداف المتوخاة)، متى؟ (الوقت والمدة الزمنية)، كيف؟(الخطوات التنفيذية والإجراءات)، ما هي الموارد المطلوبة؟ (المادية والبشرية)، من هم المعلمون الكفوؤون لإنجاز المهمة؟ ( يتم اختيار كفاءات من خلال الملف الشخضي والمهني).
صحيح أنّ الخطة اتسمت بخطوات علمية، لكن السؤال هل تضمنت الشروط الأساسية لنجاحها في مرحلة التنفيذ؟ أي هل تتسم بالواقعية، والمرونة في التكيف مع الظروف، والشمولية، والمشاركة، والتوقيت السليم؟
تدفعنا قراءة معمقة لمحاور الخطة وللواقع الميداني الى التشكيكك في أن تحقق ما رسمته من أهداف بكفاءة عالية، وبنتائج مرجوة في المدى المنظور. وإذا تطرقنا إلى الشرط الأول لنجاح الخطة من حيث واقعية تنفيذها، لوجدنا معوقات جمة تعترضها. وهنا ثمة تساؤلات يطرحها معترضون كثر على السير بالخطة، منها: هل نمتلك انترنت بجودة عالية؟ هل تتوافر لدى كل المتعلمين الموارد المادية نفسها (توفر كهرباء، انترنت، أجهزة خلوية، كمبيوترات، آلات طباعة،...)؟ هل يتساوى التلامذة من حيث الظروف المعيشية والمناطقية والصحية والاجتماعية؟ هل سيراعي هذا التعليم الفروقات الفردية بين المتعلمين؟ وماذا عن المتعلمين من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ أين موقع التقويم والتغذية الراجعة الصحيحة باللجوء إلى هذا النوع من التعليم؟ والسؤال الأهم، هل سيضمن هذا النوع من التعليم عملية تواصل وتفاعل صحيحة بين المعلم والتلميذ؟
لا شك في أن عملية التواصل الناجحة تحكمها خمسة عناصر، المرسل (المعلم)، الرسالة (المحتوى التعليمي)، قناة الاتصال (التلفزيون، الانترنت)، المرسل اليه (التلميذ)، والتغذية الراجعة ( أي ما يصل المتعلم من معلومات ومعارف تفيد بمدى فهمه للأهداف التعليمية).
في الواقع، تستطيع الخطة الموضوعة التحكم بالعناصر الثلاثة الأولى، ولكن هل ستختبر التغذية الراجعة اللازمة؟ لا. هل ستتضمن وصول المادة التعليمية إلى جميع التلامذة في ظل الظروف والامكانات التي ذكرناها سابقاً؟ الجواب أيضاً لا، وبالتالي فإن عملية التواصل التي لحظتها الخطة في المحور الثالث لن تحقق فاعلية مرجوة، وسينعكس الأمر على مبدأ العدالة والمساواة في فرص التعليم.
 
أما على مستوى توقيت الخطة: هل يمكن إنجاز التعليم في غضون أيام معدودة؟ وهل ستكون لدينا خلال الفترة المتبقية القدرة على إكمال منهاج لم يتم انجاز نصفه حتى الآن؟ وهل ستكون الحصص المسجلة والمبثة كافية لاتمام المنهاج في الوقت المتبقي وشاملة لجميع المراحل التعليمية، أم أنّ الجهد سينصب على صفوف الشهادات لإبقاء آمال إجراء الامتحانات الرسمية على قيد الحياة؟
 
لا يمكن وضع التجربة التي نخوضها في إطار التعليم عن بعد، بقدر ما هي محاولة مقبولة لابقاء التلامذة في الجو التعليمي والمدرسي، فالتعليم عن بعد منظومة متكاملة تتضمن خططاً وتدريباً ومنصات وأدوات لتصميم الدروس وبنوكاً للمواد السمعية والبصرية ونظام تقييم إلكترونياً، يستغرق تحضيرها وتجهيزها اكثر من سنتين على غرار العديد من الدول.
هذه الخطة، كما يرشح عن تربويين في تكنولوجيا التعليم، تصلح لابقاء التلامذة في الجو التعليمي والفضاء الدراسي فقط. وهي خطوة جيدة وتأسيسية لرقمنة المناهج. لكن لا يمكن أن تكون في الوقت الراهن بديلاً عن التعليم النظامي المدرسي، وأن يستند عليها لإجراء اي نوع من التقويم يتم من خلاله الحكم على نجاح التلميذ او عدمه، إضافة إلى أنّ هذا النوع من التعليم يتجاهل قضايا التركيز والآثار الضارة الناتجة عن الاستخدام المفرط للشاشات. لذا، فإنّ الحل العملي الأنجع لتدارك المشكلة، مبدئياً، يكمن في تمديد العام الدراسي لمدة شهر ونصف شهر، وإجراء إمتحانات رسمية لدورة واحدة بعد شطب بعض الدروس والمحاور.