أما لماذا تتصاعد ادعاءات المعجزة في بيئتنا، فهي برأيي ليست محاولات جادة للشفاء من الوباء، بقدر ما هي جهود ما تزال حثيثة وفاعلة وتقف وراءها سلطات وقوى لها امتدادات مؤسساتية ومجتمعية ودينية ورسوخ ثقافي وقيمي في مجالنا العام والخاص، للإبقاء على حيوية العوالم الوهمية التي تأسرنا بداخلها وتحجب عنا رؤية العالم الفعلي الذي نعيش فيه،
 

تُعتمد الصدماتُ عادة لاختبار صلابة الأشياء وقدرتها على المقاومة والتحمل، أما الأزمات فتختبر صحة الإدعاءات وحدودها وصلاحية النظريات وقدرة المفاهيم على التفسير والفهم.  هكذا الحال مع أديان زماننا حين باغتها فيروس الكورونا، وأربكها ارباكاً شديداً في التصدي لهذا الوباء الذي يكتسح البشرية بسهولة فائقة، فلم يزدها التخبط في تفسيره أو سبل مواجهته سوى انكشاف مكامن ضعفها وتهافت الكثير من ادعاءاتها. 

 

حين نشأت العقلانية بصفتها أفق تفكير ونمط انتظام جديدين، ليس للغرب الأوروبي فحسب، بل للوجود الإنساني بأسره على مراحل ومستويات متفاوتة بين المجتمعات.  حينها أخذت العلوم تتأسس وفق معايير تجريبية خالصة منحتها قدرة الكشف الفعلي عن نظام الطبيعة والفهم الواضح لقوانينها، ما أخرج مسار الطبيعة من نبؤات النص الديني وقدرات رموزه الخارقة لتضع نفسها بتصرف الإنسان وبين يديه.  وأخذ الانتظام الاجتماعي يخرج من روابطه العضوية ومن مسلمات الدين الغيبية ويتشكل على أرضية تعاقدية، أي اعتباره صناعة بشرية خالصة ارتقت بالفرد ليكون مسؤولاً عن تقرير مصيره والتحكم به، ما أخرج التاريخ الإنساني من أن يكون سلسلة نبؤات مقررة مسبقاً أو أحداث مقدرة لغايات إلهية، إلى أن يكون علماً يمكن فهم محركاته وتعديل مساره وتوقع مآلاته على قاعدة علمية خالصة.  

 

هذا الأمر تسبب بتقليص دائرة نفوذ الدين في المجال العام، وتضييق مجاله المعرفي بمعنى عدم استناد المعرفة الإنسانية الجديدة على مسلمات دينية، وتجاهل أكثر ادعاءاته المتعلقة بتفسير العالم والكون والتاريخ. أي إقصائه شبه التام عن رفد المجال العام بالحقائق والتفاسير والإجراءات، وإحالته شأناً فردياً يقبع في منطقة الضمير والإنتماءات الطوعية غير الملزمة. بالتالي انتقل الدين من كونه مصدراً للحقائق إلى مجال للحقيقة، ومن اعتباره مصدراً للتعليمات والتوجيهات إلى اعتباره إلهاما للمعنى والاختبارات الذاتية.

 

حين انحصر نشاط الدين بالبعد غير التجريبي من الوجود الإنساني،  بات المجال مفتوحاً لإطلاق النشاط التأويلي للنص الديني، لا لغرض الكشف عن محددات وقوانين الخلاص والنجاة، بل لغرض إغناء الاختبار الإيماني. وهو اختبار لم يعد يتقوم بإلزامات وانصياعات، بقدر ما يعمد إلى استجلاء بواطن النفس الإنسانية وفيوضاتها الروحية وتدفقاتها الوجودية.  ما جعل الإيمان منطقة الذات الإنسانية الخائفة من وحدتها والمرتعبة من فائض العالم وتناقضاته التي تتجاوز قدرة الإنسان على استيعابها والإحاطة بها. وهو ما قرَّب سؤال الإيمان مع كيركجارد وبعده ليصبح سؤالاً فلسفيا بامتياز، باتت فيها المفارقات (Paradoxes) والمخاطر واليأس وتناهي الإنسان وقابليته الدائمة للعطب (Vulnerability) صلب الحقيقة الإنسانية ومنشأ حريتها في آن.  

 

مع صيرورة العالم مدى خالصاً للنشاط العلمي، خرجت المعجزة من أن تكون حقيقة ناقضة لهذا العالم، ولم يعد هنالك مكان لها يغاير مساراته الذاتية وقوانينه الداخلية.  وقد بين اسبينوزا أن المعجزة كانت وسيلة هروب من جهل وتغطية على العجز في فهم وتفسير ما يجرى في العالم. فقوانين العالم بنظر اسبينوزا أزلية بأزلية الله نفسه، وأي نقض لهذه القوانين أو كسرها ليس فقط مستحيلاً بل هو نقض لأصل فكرة الله وحقيقته الذي لا يمكن لأزليته إلا أن تتبدى وتتجلى بعالمنا الأزلي.

 

لست هنا لأؤيد مقولة اسبينوزا أو أرفضها، إنما لأقول أن مقولته كانت نتيجة منطقية لمسار جديد أعاد الإنسان إلى العالم المحيط به ووضعه في مواجهة الطبيعة وحيداً ومحاصراً بالمخاطر وعارياً ومجرداً من كل الأسلحة والأوهام والمعتقدات والدغمائيات التي أفاض فرانسيس بيكون في استعراض وجوهها المؤذية. أي بات الإنسان منذ تلك اللحظة في هذا العالم من دون معحزات، أو لنقل أنه تخلى عن المعجزة التي كان يلوذ بها دائما لتنسيه ضعفه ويأسه ومرضه وجزعه وارتعابه من موته القادم إليه حتماً. ما يعني أن اللجوء إلى المعجزة لم يكن فقط جهلاً مُقنَّعاً أو فكرة مستحيلة عقلاً بحسب اسبينوزا، بقدر ما هو انخلاع الإنسان من حقيقته، ورغبة منه في نسيان وجوده الفعلي بأنه مرمي في هذا العالم لوحده. والأهم من ذلك فإن لجوءه إلى المعجزة هو هروب من حريته التي تدفعه إلى استجلاء حقيقته ومواجهة وجوده. فالحرية لا تبدأ بأن تفعل أو تنجز شيئاً ما، بقدر ما هي القرار الجريء بأن تقف بصلابة وإقدام أمام رعب المحدودية الإنسانية وهشاشتها ويأسها وقلقها.  الحرية هي أن يواجه الإنسان حقيقة وجوده من دون مواربة أو تَخَفٍ أو هروب، قبل أن تتسنى له فرصة عمل شيء ما إزاءها.    

 

لهذا، فإنه حين تستنهض الأديان والمذاهب في بلادنا موارد ومصادر المعجزة في التصدي لوباء الكورونا، فإنها تسعى إلى تسكين خوفنا وإزالة فزعنا، وتوليد طمأنينة ذاتية لدى الأتباع الجديين لهذه الأديان والمذاهب بأنهم مباركون ومصطفون ومؤيدون ومحميون.  وهي محاولات تضع المقدس من جديد في مواجهة العلم ونقيضاً له، وتصور وجود نظامين في الوجود: نظام ظاهر شكلي يتجلى في قوانين الطبيعة ومظاهرها وتجلياتها اللامتناهية، ونظام قدسي يملك دائماً اليد العليا في تعطيل النظام الطبيعي والقدرة الحرة على تعديله وإلغائه وحتى إمحائه. وبالتالي نظام يملك قدرة الشفاء والقضاء على أي وباء أو مرض لا عبر المجريات والمقتضيات العلمية أو الطبيعية أو السببية، بل عبر مؤثرات غيبية لا يمكن تعقلها أو تحسسها أو قياسها أو حتى التأثير عليها.  ويكون مفتاح هذه الإرادة الغيبية تعويذات أو ترانيم لفظية أو طقسيات شعائرية قادرة على استدعاء هذه الإرادة وتسخيرها للحماية والشفاء، من دون أن نفهم كيف ولماذا يحصل كل هذا.

 

هذا يجعل إرادة المعجزة (وفق الادعاءات المقامة حولها) انتقائية تقتصر على أتباع معينين دون باقي الناس.  هي لخصوص المؤمنين بمذهب أو دين أو معتقد يستحقون مفعول هذه المعجزة. ما يصور الوباء الحالي بمثابة عقاب وغضب غيبي على غير المؤمنين، ومباركة وتأييد وسيادة للمؤمنين ودليل إضافي على صوابيتهم وهدايتهم واصطفائهم.

 

هي ادعاءات تجعل إرادة المقدس عشوائية ومحكومة للصدفة المحضة لا يمكن توقعها ولا تتجلى بقانون أو مبدأ محدد يمكن فهمه أو التعرف إليه، ولا يمكن التواصل معها أو إدراجها داخل وضع منتظم لوجودنا وحياتنا.  هي تختار أزمنتها وأمكنتها وأناسها بأريحيتها وعلى البشر تعطيل وإيقاف كل مسعاهم لفك شيفرات محيطهم وجهدهم لعقلنة واقعهم وأنسنة انتظامهم. ما يجعلها، وفق منطق الإدعاءات حولها، إرادة انتقائية ومزاجية تفعل فعلها في مكان ولا تفعله في مكان آخر، بالتالي لا يكون بإمكان هذه الإرادة أن تجعل من فعلها قاعدة أخلاقية كلية تتوزع منافعها على جميع البشر بالتساوي.

 

هو ادعاء يصور المعجزة بمثابة الفعل الذي ينقض أي قانون أو مبدأ كوني أو طبيعي، لندخل من جديد في دوامة الكايوس الحر، اي الفعل الذي لا مبدأ له (Concept).  ادعاء يظهر المعجزة إرادة معطلة لأية إرادة إنسانية أو أي مسعى إنساني في فهم وعقلنة واقعه، أي إرادة اللامعنى. وأخيراً ادعاء ينصب المعجزة إرادة ناقضة للفعل الإخلاقي نفسه بحكم عدم عموميتها وانتقائيتها الغريبة. ما يجعل إرادة المعجزة تتطابق مع الإرادة العمياء التي روج لها شوبهاور، التي تقف خلف كل سبب أو معنى أو فهم.

 

لا نحتاج هنا للقول أن العالم كله لا يعير أي بال أو حتى اهتمام لادعاءات المعجزة التي كان تضخمها في المشرق العربي والإسلامي لافتاً. العالم ينتظر معجزة العلم والمختبر أي يراهن على معجزة الذكاء الإنساني نفسه الذي لم يستنفذ كامل إمكاناته وقدراته الإبداعية، ويراهن على معجزة الطبيعة التي حملت إلينا الوباء وتحمل إلينا الشفاء أيضاً.  ما يعني أن المعجزة على فرض وجودها هي مندكة في هذا العالم وجزء من نظامه، ولا يمكنها الخروج منه أو أن تأتي من خارجه، بل تأتي من داخله وعبره.

 

أما لماذا تتصاعد ادعاءات المعجزة في بيئتنا، فهي برأيي ليست محاولات جادة للشفاء من الوباء، بقدر ما هي جهود ما تزال حثيثة وفاعلة وتقف وراءها سلطات وقوى لها امتدادات مؤسساتية ومجتمعية ودينية ورسوخ ثقافي وقيمي في مجالنا العام والخاص،  للإبقاء على حيوية العوالم الوهمية التي تأسرنا بداخلها وتحجب عنا رؤية العالم الفعلي الذي نعيش فيه، وتحول دون رؤية ذواتنا في واقعها الهش والضعيف والمتهافت. هي ليست ادعاءات قوة وثقة، بقدر ما هي استسلام للضعف والخمول والتملص مما يفترض بالإنسان فعله بنفسه، أي التخلي عن مسؤولية نفسه ورميها على غيره والإرتماء في استلاب مريح يفتت الذات الإنسانية ويمحي وجودها لا الفيزيائي أو البيولوجي بل المعنى الذي تسبغه على انوجادها في العالم.   وأخيراً هي ليست جرأة في تحدي الوباء والاستخفاف بآثاره المؤذية أو القاتلة ، بقدر ما هي تسكين خوف الإنسان بتحويله إلى جُبنٍ ووهن في مواجهة مصائره، والسقوط المروع في غيبوبة الطمأنينة التي تطمس كينونة الإنسان وترمي بها في العدم الصامت والعماء المنطفىء.