ما يحدث في أوروبا وأميركا يزلزل العالم...
اعتادت الأمم أن ترى حروباً وأوبئة ومحناً كبرى تفترس دولاً هشة ومستضعفة. نجحت القوى العظمى في درء الأخطار بالعلم وحسن التدبير، والتخطيط المحكم. لم يسبق لنا أن رأينا باريس الأبية تجثو على ركبتيها خوفاً، ولندن العصيّة تعلن استسلامها وخضوعها للحجر الصحي بقوة العسكر، ونيويورك عاصمة الكوكب تطفئ أنوار مسارحها ومطاعمها وحاناتها إلى أجل غير مسمى.


منذ حروب أثينا وأسبرطة قبل الميلاد، والأوبئة الفتّاكة مفاصل تتغير على عتباتها مصائر أمم ومسارات أنظمة. لا يزال الموت الجماعي وما يحدثه من فجائع وآلام، سبباً في إعادة النظر بمسلّمات غالية على قلوب أصحابها. هذا ما شهدته أوروبا بعد «طاعون جستنيان» في القرن السادس وإثر «الموت الأسود» الذي تسبب فيه طاعون آخر في القرن الثاني عشر، وما جناه الجدري في تمكين الأوروبيين من السيطرة على أميركا.


لا شيء تغير. كافح الرئيس الصيني شي جينبينغ بكل ما أوتي من قوة، مخالب «كورونا» السامة في جسد شعبه، وهو يدرك أن مصداقية نظامه على المحك، ومصير الدولة كله سيتحدد في هذه اللحظات الفاصلة. تنبه لما فات الغرب أن يراه بالسرعة نفسها. ما أذهل الكون ليس مصاب يوهان التراجيدي، كأنها طالعة من إحدى الملاحم اليونانية، وإنما قوة التنين الأصفر في مصارعة الفيروس الخفي وإيقاف تمدده في ظرف أسابيع قليلة. وما سيصعق سكان الكوكب ليس وصول الفيروس «البعبع» إلى أوروبا، وهذا لا مرد له، وإنما خوارها أمامه، ارتباكها، وقلة حيلتها في مكافحته، وانكشاف وهنها العلمي وتقديراتها الحسابية لفرملته. ما سيكون محط محاسبة، هو التأخر في اتخاذ قرارات تنقذ البشر، خوفاً من أن تصيب الاقتصاد. اعتبار قيمة البورصة أعلى من قيمة الصحة. التردد في توعية الناس بمستوى الخطر الذي يحيط بهم كي لا يقللوا من إنتاجيتهم. تلك أمور سيكون حسابها عسيراً. ضعف الاستعدادات الطبية لن يرحم، ومخادعة الشعوب لن تمر. بدأ الكلام في أوروبا وأميركا عن إهمال المستشفيات لصالح الشركات، عن ترك البحث العلمي يتيماً منبوذاً في سبيل تغذية المصارف والاستثمارات الجشعة، عن اعتبار المختبرات ثانوية مقارنة بتكنولوجيا السيارات والطائرات التي تجني مالاً وفيراً.


حانت ساعة الحقيقة. ها هي مليارات الدولارات واليوروات تخرج من مخابئها. مساعدة المحتاجين بمعاشات في فرنسا باتت ممكنة، إيواء المشردين في الشوارع لم يعد صعباً، وتغذية الجسم الطبي بالمال أصبح متاحاً. كل القرارات الحاسمة اتخذت في ساعات، وكانت تحتاج نقاشات لشهور، وربما سنوات. السخاء يأتي متأخراً، على ما يبدو. مشهد إيطاليا المنكوبة يثير الذعر في نفوس حتى الأفارقة الذين يتساءلون، إذا كان أفضل البلدان الأوروبية في الرعاية الصحية لم يعد قادراً على دفن موتاه، فما الذي سيحل بدولنا المهيضة الجناح؟


صورة الغرب تهتز بقوة، كما بورصاته التي ترتعش وتتهاوى كثيراً لتصعد قليلاً. لم يعد أمام أقوى دول العالم سوى استنفار جيوشها، بعد أن اكتشفت ثغرات علومها ومعايب تقديراتها. بريطانيا تسحب جنوداً من العراق. فرنسا تنشر عسكرها في الشوارع لقمع المخالفين لقرارات الحجر الصارمة. إيطاليا تستعين بهم لتتدبر أمر مئات الجثث، والمانيا تستنفر بعد أن تركت الحياة على تراخيها وصفوف أطفالها تعج بالفيروس إلى أن وصل عدد المصابين إلى أكثر من عشرة آلاف لتقول المستشارة ميركل، إنه أكبر تحد يواجه بلادها منذ الحرب العالمية الثانية. لماذا تركت أعظم دولة في أوروبا وباء بهذه الشراسة، يتمدد وكأنما لا شيء يحدث، وغاية ما طلبته أن تبعد المطاعم موائدها عن بعضها البعض درءاً للعدوى. أهذا مقنع من بلاد توزع منتجاتها الأكثر دقة ومتانة على العالم أجمع؟ أمر غريب لمراقب عن بعد، ويقيم في بلد، صار نموه تحت الصفر، ترتعد فرائص أهله رعباً من الموت بسبب عدم توفر جهاز أوكسجين، ليكتشف أن بريطانيا العظمى ليست أفضل حالاً ولا أقل سوءاً.


هذه ليست مبالغة، حين تفقد الأقنعة والمطهرات في دول صناعية كبرى، لم تؤخذ على حين غرة، وبقيت تنتظر الفيروس أسابيع دون أن تستدرك، وتأتي الصين بأقنعتها ومطهراتها لتنقذ وتساعد، فهذا أمر مفزع.
المشهد سوريالي وسوداوي. رقم الضحايا المنتظر يبعث على التشاؤم. نظرية «المناعة الجماعية» التي تبناها الغرب، بعض دوله جهراً وأخرى سراً، قد تجد تبريراً علمياً، لكن مصداقيتها الإنسانية في ميزان الرحمة تساوي صفراً مربعاً. لن تمر عاصفة «كورونا» بسلام، و«ستحدث تغييراً في النموذجين الاقتصادي والاجتماعي»، هذا رأي شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي الذي يرى خيراً في عودة الناس إلى العزلة، ولجوئهم إلى الطبيعة، ومراجعة مساوئ كل ما فات».


أمام هذه الجائحة، والعجز المتمادي في مواجهتها ثمة عودة نصوح إلى الفلاسفة. ترجع الكتب بحكمتها ورصانتها إلى الواجهة. يستدعي المحجور عليهم في كهوفهم الحديثة باسكال وفلسفته الروحانية، حول محدودية قدرة العقل مقارنة باتساع الإيمان ورحابته. يستنجد مفكرون أمام عبثية ما يحدث، بفلسفة ميشال فوكو للاستدلال على أن «الصحة» أهم من «الحرية»، التي شن الغرب من أجلها حملات وغزا دولاً، وعلى أكتافها شيد مجداً وبنى سلماً للقيم، وضع حق الإنسان في التعبير فوق كل اعتبار حتى بات مقدساً. ثمة من يقول لك اليوم ما قيمة «الحرية» حين يصبح المرء نزيل القبر، أو طريح السرير غير قادر على ممارستها. «كورونا» في أوله، والأقنعة تتساقط واحدها تلو الآخر.