هل يعقل أن يتمكن رئيس وزراء، أيا كان، أن يلغي الميليشيات وهو الخارج من سلة بيض أصحابها الذين يأكلون ويشربون وينهبون ويقتلون ويختطفون بتلك الميليشيات، ويهشون بها على أغنامهم، ولا يخافون ولا يستحون؟
 

وأخيرا عثر الرئيس برهم صالح على الشخص الذي يرى أنه صالح للجلوس في مقعد عبدالمحسن السعدون ونوري السعيد ومحمد فاضل الجمالي وعبدالرحمن البزاز وناجي طالب وطاهر يحيى، وله ما كان لهم من النزاهة والوطنية والصدق والأمانة والاعتدال والاستقلال.

ولكن كثيرين من العراقيين يخالفون الرئيس، ولا يرون مرشحه الجديد عدنان الزرفي كذلك. فهم يرفضونه ليس فقط بسبب صفحة أعماله السابقة، بل بمتابعة مسلسل تسلقه سُلمَ المناصب العليا، وسر بقائه في أعلاه، بين ذئاب العملية السياسية القائمة، أساسا، على مبدأ احتكار عضوية نادي السلطة إلا لمن يكون واحدا منهم، أو حاصلا على الرضا والقبول.

 

وجرت العادة، منذ أن تسلط قادة الأحزاب الشيعية والسنية والكردية على الحكم في العام 2003، أن يعمل الراغب في الانتماء إلى نادي الكبار وفق قانون الانتهازية الثابت المعروف، وهو “احصل على السلطة لتحصل على المال، واحصل على المال لتحصل على السلطة”، ثم لكي تحافظ على مقعدك الدائم فيها، وأنت آمن وعلى الصراط المستقيم.

وكان ثابتا ونهائيا أن يلتزم الرئيس برهم صالح بالتقاط مرشح جديد لرئاسة الحكومة، وهي أعلى درجات سُلم المناصب الحكومية، من أعضاء جماعة هادي العامري ونوري المالكي وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وقيس الخزعلي وحيدر العبادي وفالح الفياض، فقط لا غير، حتى لو كان من أرباب السوابق، ومن الذين ثقلت موازينهم بالأمية والتطرف الطائفي والفساد والغش والارتهان لإرادة الوصيّ الأكبر القابع وراء الحدود.

 

والذي لا يمكن هضمه في هذا التكليف هو طلب الرئيس برهم صالح من عدنان الزرفي، في لقاء التكليف، أن يلتزم بتنفيذ مطالب المحتجين. دون أن يُشخّص تلك المطالب، وهو الذي يعرفها، كلها، وبالتفاصيل.

والشيء الآخر الصعب على البلع هو أن المرشح الجديد، نفسَه، وهو يبشَّر العراقيين بخبر تكليفه، في صفحته الرسمية على موقع تويتر، وعدهم بعراق “خال من الفساد ومن الميليشيات”، وهذا ما أخاف العراقيين منه، من البداية، وجعله في نظرهم واحدا من اثنين. إما مختلا أو سابحا في أحلام اليقظة حين يتعهد بأن يفعل ما لم يستطعه الأوائلُ، ويلغي الميليشيات، أو محتالا كبيرا، وبامتياز.

 

فهل يعقل أن يتمكن رئيس وزراء، أيا كان، حتى لو كان طرزان أو الإسكندر المقدوني، أن يلغي الميليشيات وهو الخارج من سلة بيض أصحابها الذين يأكلون ويشربون وينهبون ويقتلون ويختطفون بتلك الميليشيات، ويهشون بها على أغنامهم، ولا يخافون ولا يستحون؟

ثم كيف يمكن لأحد عاقل أن يُصدق أيَّ رئيس وزراء حين يَعد مواطنيه بالقضاء على الفساد، وهو ابن البيئة الفاسدة التي ولدته وأرضعته من حليبها، وأنشأته وسهرت على رعايته حتى اشتد عوده، وأصبح، بكرمها وبركاتها، محافظا للنجف التي هي “فاتيكان” أحزاب الحكم الشيعية، لأهميتها عندهم، طائفيا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا، ثم مساعدا لوزير الداخلية، أيام وزير “الدرل” (الثاقب) الشهير باقر صولاغ، وهي الوزارة المُملَكة، كليا، للقتيل قاسم سليماني، ثم لورثته من بعده، هادي العامري، وفالح الفياض وقيس الخزعلي وأبي كاظم زعيم حزب الله العراقي؟

 

ولمن لا يعرفه نخبره بأن الثابت والموثق عنه أنه انتمى لحزب الدعوة الإسلامية الموالي لإيران في العام 1983، وهو في السابعة عشرة من عمره، وبرعاية نوري المالكي، شخصيا، وإشرافه وتحت قيادته.

وفي انتفاضة آذار 1991 التي أعقبت هزيمة الجيش العراقي في الكويت، كان الزرفي أحد نزلاء سجن أبي غريب، وهرب منه أثناء الانتفاضة، وشارك فيها. وبعد أن أجهضها صدام حسين بموافقة أميركية ومباركة عربية، بسبب تسلل عناصر الحرس الثوري الإيراني إليها ومحاولة الهيمنة عليها واستثمارها، هرب الزرفي إلى السعودية، وعاش في مخيم رفحا للاجئين العراقيين بضعة شهور.

 

ثم ألقت السلطات السعودية القبض عليه، وقال بعض اللاجئين إنه اتُهم بإرسال تقارير عن اللاجئين إلى مخابرات صدام، عبر طرف ثالث. وقال بعضٌ آخر منهم إنه اتُهم بقتل أحد اللاجئين، ثم أطلق سراحه وتسفيره إلى سوريا نهاية 1991.

ومن سوريا توجه، لاجئا، إلى الولايات المتحدة، وعاش في مدينة ديربورن بولاية ميتشغان.

وبعد الغزو الأميركي عاد إلى العراق عضوا في مجلس إعادة إعمار العراق الذي أسسه عماد الخرسان، ومترجما، في الوقت نفسه، لدى الإدارة الأميركية في بغداد.

 

وقد نصّبه عماد الخرسان مع ثلاثة آخرين نجفيين أعضاء في المجلس للإشراف على إعادة تأهيل المحافظة وتطويرها. وقيل إن الحاكم المدني بول بريمر كافأه بتعيينه محافظا للنجف أوائل العام 2004.

وفي انتخابات مجالس المحافظات في 2013 خسر منصبه لأن رئيس حزبه نوري المالكي لم ينجده، فقرر الانسحاب من حزب الدعوة، وأسس ائتلافا جديدا أسماه “الوفاء”.

 

يُحمّلهُ النجفيون مسؤولية الكثير من المعارك الأهلية الدامية التي دمّرت أحياء النجف التاريخية القديمة، الأمر الذي جعلهم، وقتها، يخرجون في مسيرات حاشدة منددة بالعنف الذي اتهموه بأنه أبرز صانعيه. ويتهمه أبناء المحافظة بقيامه بمنح حوالي مئة قطعة سكنية، وسط المدينة، لأعضاء في تنظيمه السياسي “الوفاء للنجف”، الذي تحوّل في ما بعد إلى “الوفاء العراقي”.

ولكن كل هذا السجل الخاص بالمرشح الجديد لرئاسة الوزراء ليس هو المُحزن الوحيد والمثير للقلق والخوف على مستقبل الوطن وأهله، بل المحزن والمعيب هو إصرار أحزاب الدين المنبوذة في طائفتها، والمغضوب عليها من أهلها، على احتكار تعيين من يشغل هذا المنصب الذي تشرئبُّ إليه أعناق العراقيين لإنقاذهم من عمائم هؤلاء، وسكاكينهم، وقنابلهم، وميليشياتهم، واشتراطها أن يكون، حصريا، عضوا من أعضائها، أو مواليا لها لا شك في ولائه مهما ارتدى من ثياب، ومهما تكون لغة خطاباته وتصريحاته العلنية التي يرى فيها وسيلة مربحة لكسب لقمة العيش. والمهم أكثر من أي شيء آخر هو أن يكون قادرا على تنويم الجماهير التي تطالبها بالرحيل.

 

ولا يغرنَّ أحدا من المنتفضين أن تتظاهر جماعة هادي العامري بغضبها على الرئيس برهم صالح لاختياره واحدا من خارجها، فقد تكون تقيّة أو مسألة توزيع أدوار، أو لعبة خبيثة تستهدف من ورائها إيهامَ الجماهير بوطنية الزرفي، وخروجه عليها ومعاداتها. وأغلب الظن أنها تريد استغلال الخوف الشعبي العراقي من تفشي فايروس كورونا، وظروف عدم التجول، لتمرير هذا التكليف، والمصادقة عليه في مجلس النواب في غياب الفعل الجماهيري القادر على تعطيل هذا المخطط الخبيث.

 

إنها، بهذا الإصرار على احتكار السلطة والثروة والقرار، تثبت غباءها وحمقها وعمى بصرها وبصيرتها، لأنها لم تدرك بعدُ أن زمنها قد فات، وأن القوة الحقيقية الفاعلة قد انتقلت منها إلى الملايين من العراقيين الغاضبين الذين لن يترجلوا عن خيولهم، ولن يغمدوا سيوفهم، إلا بعد أن يغسلوا وطنهم من كورونا الطائفية والعنصرية والفساد، ومن جميع ما تسرب إلى عقله وقلبه من جراثيم.